أثبتت تجارب الأمم الحديثة بأن ثقافة العمل قضية محورية في أي مجتمع وأنها لا تقل عن أهمية التعليم بل إنها أهم منه لأنها المحك الحقيقي لثقافة المجتمع ورؤيته للحياة وقدرته على الإضافة والإنتاج والإنجاز، فالإنسان يتبرمج بما يكرر فعله وليس بما يقال له، فسلوك الفرد هو فيضان تلقائي مما يتشبع به ويعتاد عليه. المعروف أنه من أبرز التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية في هذا العصر، القفزة الهائلة لقيمة العمل واحتلاله مكان الصدارة بين عناصر الإنتاج ومصادر الثروة، فقد صار استثمار الطااقة الإنسانية إبداعاً وإنتاجاً من أبرز الفوارق النوعية بين الأمم المتخلفة والأمم المزدهرة، لأن العمل بمفهومه الواسع والعميق ودلالاته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بات أهم مصادر الثروة وصار السبب الرئيس للرخاء والعامل الأول للإزدهار، فبعد أن كانت الأرض في الحضارات القديمة هي مصدر الثروة أضحى الإنسان بوعيه الجديد لهذه القيمة الطارئة وبتجسيده لها بمعارفه ومهاراته وانضباطه واندفاعه وابتكاراته ومرونة قابلياته وغزارة إنتاجه ودقة أدائه هو الثروة الحقيقية المتجددة.. إن قيمة كل إنسان بما يُحسن، فالفرد بما يؤديه وليس بما يدَّعيه، لكن حُسن الأداء لا يُكتسب بالكلام، ولا يتجسد بالادعاء بل لابد أن يتدفق تلقائياً بعد أن تتشبع به النفوس بواسطة الممارسة الصادقة الجياشة والاستمتاع العميق، والانتظام الواعي والمثابرة الحميمة والرغبة المتجددة وتنمية القدرات المستمرة، والانفتاح على طاقات الذات الكامنة وما تخبئه من إمكانات مفتوحة وقدرات هائلة. وقد أثبتت تجارب الأمم الحديثة بأن ثقافة العمل قضية محورية في أي مجتمع وأنها لا تقل عن أهمية التعليم بل إنها أهم منه لأنها المحك الحقيقي لثقافة المجتمع ورؤيته للحياة وقدرته على الإضافة والإنتاج والإنجاز، فالإنسان يتبرمج بما يكرر فعله وليس بما يقال له، فسلوك الفرد هو فيضان تلقائي مما يتشبع به ويعتاد عليه.. لذلك يجب الاهتمام الشديد بثقافة العمل والتركيز عليها وحشد الجهود من أجل تأكيد أولويتها وجعلها في الواجهة اهتماماً وإجراءات، وموضع عناية وتأكيد الجميع واعتبار الكفاءة العملية هي المعيار الحقيقي للمكانة الاجتماعية والأهلية الوظيفية وبذلك يتحقق توطينها كثقافة للمجتمع كله.. إننا ننفق المليارات كل عام على التعليم النظري لكن النتائج تأتي دائماً هزيلة بل ممعنة في الهزال والكلال وهذا يستوجب أن نبدأ عهداً جديداً بالاهتمام بثقافة العمل وأن نغدق على العاملين المنتجين أكثر مما ننفق على الدراسة النظرية العقيمة. إن اقتناعي بالأهمية البالغة لتوطين ثقافة العمل هو الذي جعلني أهتم بتجربة أرامكو، فهي على المستوى المحلي وربما على المستوى العربي كله نموذج رائع في تجسيد ثقافة العمل بجودة الأداء وغزارة الإنتاج وصدق الولاء المهني، لكنه تجسيد يستنزف مخزون البترول الذي نعتمد عليه حالياً كمورد رئيس للاقتصاد الوطني وممول أساسي للميزانية العامة وهذا يشير إلى الخطر الكامن في هذا الاعتماد الكلي ويقتضي خلق توجه عام في المجتمع في القطاعين: العام والخاص وعلى المستويين: القيادي والشعبي، وذلك من أجل حشد طاقة المجتمع لتحقيق اندفاع شديد من أجل إيجاد مصدر اقتصادي بديل متجدد قبل استنزاف المصدر الحالي الناضب... إننا قد تكاثرنا سكانياً تكاثراً هائلاً وما زال التكاثر مستمراً بنفس المعدل المخيف، وهو معدل ليست البيئة مهيأة له فنحن نعيش في بيئة صحراوية جدباء معادية للحياة وطاردة للأحياء، فلا أمطار ولا أنهار مما جعلها تبقى خالية من البشر خلال كل القرون ولكنها الآن بسبب موارد البترول الطارئة المؤقتة قد امتلأت بالمدن واكتظت بالبشر مما يجعل الوضع في المستقبل مخيفاً بعد أن ينضب البترول وتتوقف الموارد الريعية التي يعتمد عليها الوطن اعتماداً كلياً وهذا يستوجب تعميم ثقافة العمل السائدة في أرامكو بسرعة وكثافة لتنتقل هذه الثقافة الإيجابية من مجال الاستنزاف وتمويل الاقتصاد الريعي إلى مجال بناء الإنسان والانتقال به وبالوطن إلى مستوى الاقتصاد الإنتاجي ليكون المجتمع أهلاً للبقاء وقادراً بأن يعيش في صحرائه القاحلة بما ينتجه ويبدعه باستثمار الطاقة الإنسانية بديلاً لمخزون الأرض حين ينضب وهو نضوب حتمي فنحن الآن مجتمع يستهلك ولا يُنتج، وحتى الأعمال الرتيبة التي نمارسها نؤديها بكلال وإهمال وتأفف وركاكة وأخطاء غير مبررة وبعيدة كل البعد عن الإتقان، وليس التكدس الثقيل والأداء الكليل والترهُّل البيروقراطي الوبيل الذي تعيشه الأجهزة الحكومية سوى مظهر من مظاهر الافتقار الشديد لثقافة العمل. إن المجتمع السعودي مازال يعيش اقتصاداً ريعياً يعتمد على موارد البترول التي تأتي بواسطة هذه الشركة العملاقة ففي داخل هذا المجتمع يوجد مجتمع آخر يعيش محاطاً بسياج ومداخل وبوابات مغلقة وما أن تنفتح لك هذه البوابات وتنتهي إلى المكاتب المهيبة الصامتة حتى تفاجأ بالجالسين إلى مكاتبهم مستغرقين في أعمالهم فتحس أنهم يشعرون ببهجة المعرفة ومتعة العمل ونشوة الإنجاز.. إن هذا الوضع الحرج يضعنا بين شد وجذب في رؤيتنا لجهد أرامكو المتميز والمخيف فهي تنهض بمسؤوليات ثقيلة تؤديها بكفاية وإتقان ولكنها بهذه القدرة المدهشة على العمل المنتج تعتصر أرضنا لتستنزف كل مخزونها الثمين من غير اهتمام بإيجاد مصدر اقتصادي بديل للإنفاق على الوطن وضمان استمرار الحياة بمستوى إنساني مقبول. إن طبيعة المسؤولية التي تنهض بها أرامكو تضعنا في موقف حرج فهي مسؤولة عن التنقيب والاستخراج والتكرير والنقل والتسويق لكنها غير مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ لإيجاد مورد بديل حين ينضب البترول!! فنحن في موقفنا منها في حالة شد وجذب تتأرجح بين الإعجاب الشديد، والخوف المربك. إننا في حالة إعجاب شديد بأرامكو وأسلوب عملها والإشادة بقياداتها وتقدير العاملين فيها ولكنه إعجاب يصدمه خوف شديد في المستقبل ويصاحبه تطلع متلهف إلى جهود جبارة ضرورية ملحة لإيجاد مصدر بديل متجدد، ولن يكون ذلك إلا بالاتجاه الواعي والكثيف والصبور لتهيئة المجتمع بثقافة العمل الحقيقي بمفهومها الحديث الخلاق الذي تجسده أرامكو.. وهي قادرة على ذلك ومتهيئة له. إن الإعجاب الشديد بأرامكو ورجالها وأسلوب عملها ومستوى أدائها وتطور قدراتها هو إعجاب بثقافة العمل المتميزة فثقافة العمل بما تعنيه من إبداع متجدد وإنتاج غزير ومرونة واعية للظروف والأوضاع وإدراك للفرص والعوائق، إن هذه هي البديل المتجدد للمصدر الحالي الناضب. إن الإنسان إما أن يكون منتجاً فيصير ثروة عظيمة لنفسه ولوطنه ولمجتمعه أو يبقى كليلاً مستهلكاً فيصير عبئاً على نفسه وعالة على وطنه وأهله، فبالعمل الجاد المنظم حققت اليابان معجزتها التنموية الباهرة رغم فقرها الشديد بالموارد الطبيعية، فالعقول الخلاقة قادرة على أن تحيل التراب والمواد الخام المجلوبة من أي مكان لتصير طائرات ضخمة سابحة، وسيارات فارهة أنيقة وأجهزة دقيقة مدهشة بل أن تصبح هذه المواد الخام عقولاً صناعية مذهلة هي أكثر إبهاراً في العقل البشري ذاته فبالعمل الجياش المنظم استطاعت سنغافورة بأرضها العاطلة ومساحتها الضيقة وسكانها الذين يقلون عن سكان حي من أحياء إحدى المدن الكبرى أن تصير نموذجاً تحتذيه حتى المجتمعات الكبرى المزدهرة وتُبدي انبهارها الشديد به، وهذه مفخرة تنموية ليس بعدها مفخرة فقد اقترح الكاتب الأمريكي فريدمان على أمريكا أن تستفيد من تجربة سنغافورة حتى تتجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها وليس هذا التفوق الباهر سوى الثمرة اليانعة لثقافة العمل الجاد المنضبط وإدارة الموارد وتنميتها بكفاية وأمانة إنها قيم العمل التي رفعت سنغافورة من أرض خالية من الموارد الطبيعية محرومة حتى من الماء العذب الذي تستورده من ماليزيا حتى صارت مضرب المثل في التنمية الناجحة والإنجاز الباهر...فثقافة العمل التي تتميز بها أرامكو لابد أن تصير إلهاماً لنا جميعاً.. إن تاريخ أرامكو وواقعها كلاهما يؤكد بأنها قادرة على النهوض بإسهام كبير وفاعل في توطين ثقافة العمل بمعناه التنموي المعاصر، إن إنسان أرامكو هو إنسان يختلف ليس فقط في أدائه المهني وإنما يختلف أيضاً في سلوك حياته عن الإنسان النمطي الرتيب بجديته الصارمة وحيويته المتدفقة وانضباطه الشديد وتكوينه المهني الباهر والتزامه التلقائي الفياض وإحساسه الشديد بقيمة الوقت ومحافظته عليه واستعداده للاندماج في الفريق والتناغم مع المجموع وبقائه رغم ذلك مستقلاً في تفكيره ومبادراً في عمله وقادراً على تطوير ذاته ومندفعاً لتنمية قدراته ومتهيئاً بكل تحفز للانتقال من مستوى المهارة المهنية إلى مستوى الابتكار والإبداع.. إن سرعة تكيف العاملين في أرامكو مع متطلباتها الدقيقة وبيئتها الصارمة وتشرُّبهم لثقافتها المتميزة وولاءهم العجيب لها تؤكد أن الإنسان يتكيف ببيئة العمل فيتحرك معها وبها تلقائياً إذا كانت صادقة وصارمة ودقيقة وعادلة وتتحدد فيها المكانة بمعيار الكفاءة وليس بمعيار العلاقة، وتكون في نفس الوقت ذات مغريات كبيرة وحوافز كافية وذات بنية مغلقة ومنفصلة عن المجتمع الكليل البليد بما يضج به من المثبطين والمشككين، ومحمية عن تأثير ذوي المصالح الشخصية المتضاربة.. إن العامل في أرامكو يتناغم مع متطلباتها ويستجيب للتطورات المتتالية فيها ويتكيف مع ظروف العمل الصارمة التي تفرضها حتى لو أدى ذلك إلى انعزاله عن المجتمع المحيط به لأنه لا يسهر كما يسهرون فهو ينام مبكراً ويستيقظ مبكراً في مجتمع اعتاد السهر الذي يستنفد الوقت ويستهلك الطاقات. إن الناس في مجتمعنا يطيلون السهر ويتأخرون في الاستيقاظ لأننا مجتمع يفتقر لثقافة العمل وما تقتضيه هذه الثقافة من تقدير لقيمة الوقت وتنظيم لمفردات الحياة وعدم إنفاق الاهتمام والطاقة والوقت إلا في مجال نافع ومثمر.. لكن ما هي العوامل التي جعلت إنسان أرامكو يختلف مهنياً عن بقية الناس في المجتمع المحلي بل العربي؟! إنه منضبط ودقيق وشديد الإحساس والتنظيم ليس فقط في مواقع العمل بل حتى في مواعيد نومه ويقظته وأكله وراحته وانشغالاته وعلاقاته واهتماماته وتركيز ذهنه في مهنته؟!! إن منسوبي أرامكو في رؤيتهم للعمل وفي أدائهم للواجب وفي أسلوب حياتهم لا يشبهوننا أبداً إنهم يتميزون بشدة الارتباط بالمؤسسة وعمق الولاء لها والتشرب التام لثقافتها، إنهم يعيشون في جزيرة عجيبة خارقة تعج بالنشاط المنتج وسط بيئة يكبلها الكلال وتنشغل بالكلام ولا تجيد غير الاستهلاك، لقد تطبع العاملون في أرامكو بثقافة العمل السائدة في أمريكا واليابان وأوروبا وغيرها من المجتمعات التي ازدهرت بالعمل وارتقى فيها الأداء فصار الناس فيها منضبطين تلقائياً وبذلك فإن أرامكو صارت جزءاً من العالم المزدهر في ثقافتها المهنية وفي أسلوب الحياة السائدة فيها!! فكيف تحقق ذلك لأرامكو؟! إن عوامل متنوعة تضافرت لتجعل إنسان أرامكو مختلفاً في أدائه وفي نمط حياته عمن عداه ويمكن أن نشير إلى بعض هذه العوامل كما يلي: - يعرف الجميع بأن أرامكو في البدء كانت شركة أمريكية وبذلك فإنها امتداد للثقافة الأمريكية التي تحركها فلسفة العمل، فهي مؤسسة ذات تقاليد مهنية عالية وراسخة ودقيقة وصارمة، ولكن الشيء الأعجب أن هذه الشركة بثقافتها الإيجابية الفعالة تتحرك منفردة ومغردة وجياشة ومنتجة وسط مجتمع يستهلك ولا ينتج وهذه هي نقطة الاعتبار التي تفتح لنا الطريق لبناء مجتمع منتج فقادتها والعاملون فيها هم من أبناء هذا الوطن لكنهم تطبعوا بثقافة العمل المجلوبة من أقصى الغرب.. - إن أرامكو رغم أنها آلت إلى الحكومة فصارت شركة حكومية إلا أن الدولة لم تُربك نظامها ولم تتدخل في ثقافتها فبقيت بصلاحيات واسعة ومرنة تستحقها إن أرامكو قد أثبتت أنها أهلٌ للثقة وقد أدرك ولاة الأمر ذلك فأبقوها بصلاحيات واسعة ومتطورة تتيح لها التحرك بسرعة واعتداد وثقة وانفتاح على كل الآفاق وتمنحها القدرة على التجاوب الإيجابي السريع في كل الحالات والتعامل الناجح مع التقلبات في جميع الظروف.. - إن أرامكو لا تبخل على العاملين المنتجين الرائعين لأنها تركز على النتائج السخية التي تجنيها منهم فتكافئ وتُغغدق إنها تعرف أنها مهما أغدقت على ذوي الكفاءة من رواتب ومزايا وتدريب فإن طاقة الإنسان الإبداعية وقدراته الإنتاجية تعوض عن أي إنفاق مهما بلغ بل إن الإنسان بطبعه مدفوع بالحاجة ويتحرك بالرغبة ويستجيب للإغراء، إنه يعتاد ما يمارسه فيتبرمج به فالمهم أن يندفع العاملون للعمل وأن يستمتعوا بأعمالهم وأن يتشربوا ثقافة الشركة، وأن ينتظم الرضا ويتوفر الاقتناع وتتحقق الثقة بتكافؤ الفرص فإذا تحقق ذلك كله كما هو في أرامكو فإن النتائج تأتي باهرة فلا نهاية لتطوير قدرات الإنسان ولا حدَّ لتعبئة قابلياته وحشد طاقاته بشرط أن يصير مقتنعاً بمهنته وراضياً عن وضعه ومطمئناً بأن الكفاءة هي المعيار وينال رواتب ومكافآت وبدلات ومزايا مغرية إنه في هذه الحالة يمنح العمل كل طاقاته المخبوءة الكامنة ويتفرغ لمهنته تفرغاً كاملاً فلا ينشغل بالبحث عن مصادر رزق أخرى بل ويتخلى عن أسلوب الحياة السائد في البيئة ويلتزم بأسلوب جديد في الحياة ليحصر طاقته في مهنته فينام والناس مازالوا ساهرين ويستيقظ والناس غارقون في النوم.. - إن أرامكو تغري ذوي الكفاءة بأن يتجهوا إليها وأن يلتحقوا بها وأن يستمروا في تطوير قدراتهم بعد انتمائهم إليها وأن يبدعوا في أدائهم وأن يمحضوها ولاءهم وأن يتعمق هذا الولاء بمقدار طول الاستمرار فيها إنها تقدم لهم مزايا وفرصاً لا يمكن أن ينالهما العاملون في القطاع الحكومي مهما بلغت كفاءتهم ومهما اشتد إخلاصهم، ومهما علت مراتبهم ومهما عظمت مسؤولياتهم إن الموظف المتوسط في أرامكو يتقاضى أكثر مما يتقاضاه الوزير، إن عامة الموظفين في أرامكو يتقاضى أحدهم مع البدلات أكثر مما يتقاضاه وكيل وزارة أو مدير عام يتحمل مسؤوليات باهظة!!!.. - إن أرامكو رغم أنها تضم نحو ستين ألفاً من الموظفين والعاملين إلا أنها تعمل كفريق رياضي فلا فرق بين الرئيس والمرؤوس إلا بفوارق المسؤوليات لكنهم يعملون متضامنين ومتآلفين ومتنافسين على التفوق وكل واحد منهم يكمل الآخر كما هو شأن الفريق الرياضي تماماً لأن النتائح محسوبة للجميع وليست لفئة دون أخرى.. إن تجربة أرامكو خلال أكثر من سبعين عاماً تستحق دراسات عميقة ومفصلة وملهمة ولكن جامعاتنا لم تهتم بهذه التجربة العظيمة، فقد كان يجب أن تصير موضوعاً لرسائل في الدكتوراه لتأكيد المفاصل المهمة وإبراز نقاط الاعتبار في هذه التجربة السخية ففي الربع الثاني من القرن العشرين استطاعت أرامكو أن ترتقي بالرعاة إلى مستويات مهنية عالية، لقد التحق بالعمل لديها الكثيرون من أبناء البادية وغيرهم من الأميين ممن لم يكونوا عند التحاقهم بالشركة يملكون أية مهارات أو معارف وإنما كانوا الأبعد من الدقة والانضباط والعمل المهني العصري المنتج، ولكن أرامكو تمكنت من أن ترتقي بهم بسرعة مدهشة إلى المستوى الذي يتناسب مع أهمية ودقة العمل الذي يؤدونه وارتقى بعضهم إلى أن صار شريكاً في التنمية وليس مجرد عامل تابع كما هي حال العليان وآخرين.. إن هذه الظاهرة من أبرز الظواهر الاجتماعية في المجتمع السعودي وهي ذات دلالات في غاية الأهمية ولكنها لم تنل الاهتمام الذي تستحقه ولا الدراسة الفاحصة التي تجلو حقائقها الإيجابية، إن أرامكو بأفرادها الرائعين وتنظيمها الصارم وأدائها الدقيق وإنتاجها الغزير وقادتها الواثقين هي عالم منفصل عن كل محاولة إنه منفصل بما قد تشرَّبه من قيم وما تعبأ به من كفايات وما يجيش به من حماس وما يتفاعل فيه من تكامل، إن ثقافة العمل قد تأسست في أرامكو منذ البداية وظلت تنمو وتتسع وتتعمق حتى ضربت جذورها في الأعماق ففاضت عطاءً زاخراً...