الوعي السياسي يبدأ بالمعرفة وينتهي بالسلوك، وبينهما عاطفة منحازة لأيديولوجيا الفكر والاتجاه، وفي جميع هذه المراحل تتشكّل رؤيتنا للأحداث والقضايا السياسية من حولنا، ومحاولة وصفها وتفسيرها وتحليلها والتنبؤ بها؛ وصولاً للحكم عليها، واتخاذ موقف منها، ويتداخل مع هذه المراحل متغيرات تؤدي دوراً حاسماً في عملية الوعي السياسي، أبرزها مستوى التعليم، وسنوات الخبرة، ونوع التجربة، إلى جانب الرؤية والقدرة على تحقيق المصالح والحفاظ على المكتسبات الوطنية، وكل ذلك ناتج من التعرّض للأحداث التاريخية، وتداعيات الصراع، وما تنشره وسائل الإعلام، وما يثار في شبكات التواصل الاجتماعي. اليوم كل المؤشرات تدلل على أن هناك تحولات سياسية كبيرة وعميقة ومؤثرة في منطقة الشرق الأوسط، ويسبقها تحالفات، وتجاذبات، وخيارات مفتوحة على أكثر من صعيد، ويتزامن معها مصالح إقليمية ودولية لرسم التوجهات المستقبلية للمنطقة، وجميعها تتطلب وعياً سياسياً من الشعوب العربية في فهم واقع «الشرق الأوسط الجديد»، واستيعاب متغيراته، والارتهان إلى وحدة الصف، وتماسك الجبهة الداخلية، وما تقرره الحكومات وفق مصالح عليا لا تقبل المساومة أو المزايدة عليها؛ للحفاظ على الأمن والاستقرار والسلم الدولي، والمضي في التنمية التي هي أساس التقدّم والتحضّر لتلك الشعوب. الشواهد التي أمامنا أن الإدارة الأمريكية الجديدة لديها مشروع سلام في الشرق الأوسط، وهو الأمر المعلن في خطاب الرئيس ترمب عشية تنصيبه، وهناك تحركات ولقاءات ومشاورات دولية حول ماهية هذا السلام، وأجنداته، ومتطلباته، وأيضاً تداعياته على الأرض، ولعل لقاء الرئيس ترمب مع نتنياهو بداية لهذا التحرك، كما يأتي الموقف العربي الموحد من إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدسالشرقية أساساً لعملية السلام، والانخراط في محادثاته، وحلاً للصراع الدامي على مدى عقود، وهذا الموقف العربي الثابت والراسخ تتنازعه اليوم قضايا أخرى تجاه مواقف إسرائيل من التقسيم، والتهجير، والاحتلال، والاستيطان، والرهائن، وأيضاً سعيها إلى ترتيب أولويات المنطقة على أساس الخطر الخارجي الذي لا يزال قائماً. كل هذه التحديات تكشف عن تحولات مقبلة للمنطقة، ومواقف سياسية معلنة، وأخرى متشددة، ورأي عام عربي يتشكّل نحوها، وهو ما يتطلب وعياً سياسياً مختلفاً من الشعوب العربية، والاستفادة من الدروس السابقة، وعدم الانسياق خلف أجندات محدودة العمق والتأثير، وشعارات زائفة لم تصمد أمام الواقع، أو خلف تجّار المواقف على حساب الضحايا الذين لا يزالون يعانون من ويلات الحروب وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في دولهم. الوعي السياسي للشعوب اليوم يجب أن ينطلق من رؤية الأمن الوطني لكل دولة، والثقة في قرارات قياداتها وتوجهاتهم السياسية والأمنية، والعمل معاً في مهمة التصدي لكل محاولات التأزيم والتشكيك وإثارة الرأي العام، والاحتكام في ذلك إلى المصالح العليا للدولة، والحفاظ على الوحدة الوطنية ومكتسباتها، والأهم أن تبقى الحكومة هي مصدر المعلومات الصحيحة والموثوقة التي نتبادلها، ونستقي منها فهم الواقع ومجرياته، واستنتاج توجهاته، والربط بين أحداثه وتداعياته؛ لأنه باختصار ما ستشهده المنطقة العربية خلال المرحلة المقبلة هو واقع جديد يجب أن نكون أكثر استعداداً له بوعينا السياسي.