تحدثت في مقالي السابق عن تجريم الواسطة وعقوبتها الواردة في المادة الرابعة من نظام مكافحة الرشوة السعودي، وسأتطرق في هذا المقال إلى كيفية التبليغ عن جريمة الواسطة وعن دور هيئة مكافحة الفساد في القضاء على هذا النوع من الجرائم. لابد أن نعرف أن هيئة مكافحة الفساد -واسمها المختصر: نزاهة- تُعاني لإثبات وجودها من تشكيك شعبي كبير في قدرتها على التغيير، هذا التشكيك نشأ في النفوس منذ تأسيسها عام 1432ه واستمر إلى يومنا هذا، صرح به من صرح وأخفاه من أخفى، ولا لوم في ذلك، فقد ظلت عاماً كاملاً بعد تأسيسها في مرحلة صمت مطبق بحجة إعداد اللوائح والأنظمة، ثم أعلنت عن تعيين دفعات من موظفيها وأدائهم القسم مع تقديمهم إقراراً بالذمة المالية، ولم تتمخض حتى الآن عمّا يقنع الشعب المتلهف، فما هي إلا عدة منشورات (توعوية) بقضايا صغرى من قبيل: لا تستخدم سيارة عملك لمشاويرك الشخصية – لا تستخدم هاتف عملك لمكالماتك الشخصية – لا تستخدم طابعة عملك في أوراقك الشخصية.. إلخ، وكأن الفساد قد اندحر ولم تتبقَ إلا هذه الجزئيات، وما هذا التهميش للقضايا الكبرى إلا بادرة (فساد) من (نزاهة)، فقد تركت الفساد الواضح ذا العواقب الوخيمة والممكن إثباته بالمستندات، مع أنها لو لم تعمل غير ملاحقة جريمة الواسطة والتشهير بأصحابها لأنجزت بذلك إنجازاً وطنياً ضخماً يسجله التاريخ. على موقعها الإنترنتي، تعرض (نزاهة) تصويتاً جانبياً حول أكثر المجالات التي يعتقد الزائر أن الواسطة تشيع فيها، وجُعلت للإجابة ثلاثة خيارات: 1 – الواسطة في استخراج التصاريح ورخص مزاولة المهن. 2 – الواسطة في تجاوز العقوبات والجزاءات. 3 – الواسطة في التوظيف. وقد كانت النتيجة تفوُّق الخيار الثالث بنسبة كبيرة، ولا عجب في ذلك فهو يمس كل فرد من أفراد الشعب، هذا التصويت بحد ذاته دلالة على أمرين: الأول أن الواسطة إحدى أكبر معضلات بلادنا، والثاني: أن (نزاهة) تعلم هذا وتهتم به -على الأقل ظاهرياً- فأين النتائج الملموسة منذ سنة ونصف؟ لقد تم تغليف الواسطة -في التوظيف خاصة- بغلاف ديني اسمه (الشفاعة) -والشفاعة من هذا الفساد بريئة- مما جعلها أسهل ارتكاباً وقبولاً، بل بلغت الجرأة أن تُرسل خطابات رسمية فيها طلب (قبول شفاعتنا في توظيف فلان)، مطبوع عليها اسم الجهة الحكومية برقم الصادر والوارد وتاريخ الإرسال وتوقيع المسؤول الحكومي! فأي بجاحة وانفلات يحصل تحت سمع وبصر هيئة مكافحة الفساد؟ ومع أن هذا الفعل يعتبر جريمة تستوجب السجن أو الغرامة المالية المرهقة، إلا أنك قد ينقضي أجلك وأنت لم تسمع بتنفيذ شيء من هذا القبيل، لأن آلية التبليغ التي تعتمدها الهيئة لتلقي البلاغات مُنَفِّرة، ففي موقعهم الإلكتروني يطلبون عند تسجيل البلاغ كتابة الاسم الرباعي مقطَّعاً (الاسم الأول – اسم الأب – اسم الجد – اسم العائلة) ثم رقم الهوية وتاريخ انتهائها ورقم الجوال والعنوان! وبعدها خطوات وتأكيدات تجعل المُبلغ يتردد كثيراً ويخشى انكشاف شخصيته مع أنه كان يكفي للتأكد من هوية المبلغ ذكر رقم الهوية فقط، وقد انتشرت قصة في الشبكات الاجتماعية قبل فترة عن موظف أرسل بلاغاً حول فساد في مؤسسة حكومية فبعثت الهيئة خطاب مساءلة لتلك الجهة فيه (بخصوص ما بلغنا من موظَّفكم فلان الفلاني) فانكشفت هويته وتعرض لضرر اجتماعي ومهني بسبب هذا الخطأ المرعب. يجب تشجيع مَن تقع في يده مثل هذه الخطابات على إرسالها للهيئة، فهي إثباتات قطعية يمكن التأكد من صحتها عن طريق رقم الصادر من نفس المؤسسة التي خرج منها الخطاب، كما أنه لابد من توسيع الدائرة لتلقي البلاغات حتى من المجهولين، فإن مهمة الهيئة لا تقتصر على كونها جسراً بين المواطن والقضاء بل مهمتها (مكافحة الفساد) بتسهيل سبل الإبلاغ عنه وهذا يقتضي تحملها لعبء إثبات الفساد أو على أقل تقدير الإشراف على إثباته، لا إلقاء ذلك على كاهل المواطن الذي هو خائف أصلاً من انكشاف دوره وتعرضه لترصد المترصدين. هيئة مكافحة الفساد حلمٌ كانت البلاد تتمناه من سنين، ولو أنه يتحقق كما قُدِّر له -على الورق والخيال- أن يتحقق؛ لاندحرت الوساطات والرشاوى ونعمت بلادنا بالأمن والأمان الحقيقيين، ولتسلَّم إدارة الأمور من هو كُفء لها بلا مجاملة أو كذب، ولن يتم ذلك إلا بكشف المفسدين.