يكاد الناس يصابون بالوسوسة وبالأمراض الوهمية بسبب تضارب النصائح الطبية التي تنشرها الصحف ومواقع الإنترنت وكذلك رسائل ال SMS التي تبثها بعض المواقع للمشتركين فيها. وقد شاهدت مؤخراً برنامجاً طبياً تلفزيونياً يعدّه ويقدّمه طبيب استشاري، وكان ضيفه في البرنامج طبيباً استشارياً من تخصص مختلف.. وكانا يبدوان غاية في المعرفة الطبية والخبرة ويعملان في مؤسسات طبية راقية لا يدخلها المريض العادي إلا بتحويل من لجان طبية. ولأنهما على هذا النحو الذي وصفته فإن ما يقولانه - بالنسبة لمن هم مثلي من غير المتخصصين - يؤخذ على أنه حقائق غير قابلة للنقاش.. وهذا من باب «احترام التخصصات»، كما يُقال، وأيضاً من باب الاعتراف بمحدودية المعرفة الطبية التي تقترب من الجهل المطبق في بعض تفاصيل ما يتحدث الطبيبان عنه بالنسبة لأمثالي. وليست المشكلة في البرنامج بحد ذاته، فهو تثقيفي ومفيد.. لكن المشكلة هي أن العديد من إجابات الطبيب الضيف على أسئلة زميله الطبيب مقدّم البرنامج وأسئلة المشاهدين الذين كانوا يتصلون على الهواء مباشرة تنسف الكثير مما هو شائع بين الناس من معلومات طبية كنا نظن أنها من الحقائق الثابتة التي اكَّدَها العلم.. وهي معلومات نسمعها من أطباء آخرين يكتبون موضوعات طبية في الصحف! كثيرٌ من الناس يتركز اهتمامه على فوائد وأضرار بعض أنواع الأطعمة وأثرها على الأمراض، وخصوصاً الأمراض المزمنة، مثل الضغط والسكر وارتفاع الكولسترول وغيرها من الأمراض التي أصبحت شائعة في مجتمعنا بسبب سوء العادات الغذائية.. وعندما تخرج الصحف بعناوين كبيرة وملونة تبشّر مرضى ارتفاع الكولسترول بأن البيض لم يعد من الأطعمة الممنوعة بعد سنوات من الحرمان ثم فجأة يأتي بحث طبي آخر ويؤكّد أضرار البيض على مرضى الكولسترول فإن هؤلاء المرضى المحرومين يصابون بالحيرة.. هل يصدقون هذا أم ذاك؟! أما مرضى السكر فهم الضحايا الدائمون للأخبار الطبية.. وقد شاعت في السنوات الأخيرة أخبار وحكايات عن أبحاث تؤكد فوائد القرفة والشاي الأخضر والزنجبيل وغيرها لمرضى السكر حتى كاد هؤلاء المرضى يتركون أدويتهم وينصرفون إلى استهلاك هذه المواد التي قيل إنها مفيدة ليس فقط للوقاية من السكر وإنما لعلاج السكر أيضاً! أما المكملات الطبية مثل الفيتامينات وأوميغا 3 والأعشاب الطبية التي تعالج جميع أنواع الأمراض فهي ربما تخرج عن مجال الطب الحديث الذي يتخصص فيه الطلاب في كليات الطب، وهي ربما تكون موضع انتقاد من الأطباء أنفسهم.. لكنها هي الأخرى، ومعها أدوية العطارين، مصدر لحيرة المرضى المتلهفين لما يشفي أسقامهم. يقول أحد الأطباء إن الطب هو بلا شك «علم» لكنه ليس علماً شديد التحديد كالفيزياء والرياضيات، أو ما يُسمى بال exact science ، وبالتالي لا بد أن نتعامل معه على هذا الأساس. فعلى الرغم من الفتوحات والاختراقات الهائلة التي حققها الطب والتي هي حصيلة مسيرة طويلة امتدت آلاف السنين عبر التجارب والخبرات والأبحاث المتراكمة فهو ما زال محدوداً ولكنه سيتطور وسيتسارع تطوره كل يوم.. ومع هذا سيظل الناس يموتون من الأمراض، فالإنسان كائنٌ فانٍ مهما بلغ تقدَّم الطب.