من ضمن الكتب التي هزتني عندما كنت والتراث السلفي التقليدي صنوان لا نفترق, كتاب(المظنون به على غير أهله), لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي(450 505ه), فلقد صدمني أبو حامد رحمه الله عندما زعم في الكتاب ذاته بأن هناك علماً لَدُنِيَّا( =يمكن اكتسابه بلا تعلم, ويعني تأويل الآيات القرآنية من منظور صوفي), لا يؤتاه إلا طبقة خاصة من الناس, هم العارفون بالله(= المتصوفة), بعد أن يفنوا في الذات الإلهية عبر سلسلة من الرياضات الروحية. أما العامة, والكلام لا يزال لأبي حامد, فيجب أن يظلوا بعيداً عن تلك التأويلات, حتى تسلم لهم عقائدهم التي تشربوها من ظواهر النصوص. وهو أمر عاد أبو حامد إلى التأكيد عليه في رسالته الشهيرة(إلجام العوام عن علم الكلام), عندما جزم بأن الخلق منقسمون إلى طبقتين, خاصة وعامة, وأن العامة يجب أن يمسكوا عن كثير من الأسئلة المتعلقة بذات الله وأسمائه وصفاته, ويكلوا أمرها إلى الخاصة, الذين يدركون, بما لديهم من علم كشفي عرفاني, ما وراء ظواهر النصوص, ومن ثم يستطيعون تأويلها بما يتناسب مع باطنها الذي هو المقصود الأساس منها. الفلسفة حق لكنها ليست من الدين في شيء, والدين حق لكنه ليس من الفلسفة في شيء. ومن أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن جميع الديانات, ومن اختار الدين فيجب عليه أن يعرض بعنايته عن الفلسفة.. لكني لم أكد أفيق من صدمة أبي حامد , حتى تلقاني أبو الوليد بن رشد (520 595ه) بصدمة أعنف, عند قراءتي لكتابه(الكشف عن مناهج الأدلة), والذي حمل فيه على المتكلمين لأنهم في رأيه صرحوا بتأويلاتهم الكلامية, التي تتناقض مع ظواهر ألفاظ الشرع, فأوقعوهم في حيرة وشتات وتناقض. وكأن فيلسوفنا العظيم يريد من المتكلمين أن يُبقوا تأويلاتهم حبيسة إطارهم الخاص, يؤيد ذلك أنه هو نفسه كان يرى أن تبقى الأقاويل العلمية الأرسطية التي لا تتفق مع ظاهر الشرع, حبيسة الإطار الخاص للفلاسفة حتى لا تشوش على العامة عقائدهم. كنت أظن حينها, وأنا الذي لمّا أزلْ ملتحفاً عباءة سلفية ترفض السفسطة الكلامية, كما الأقاويل البرهانية والمنطقية, انطلاقاً من شعارها التيمي الأثير" من تمنطق تزندق", أن تلك التفرقة بين الخاصة والعامة, سواء عند الغزالي أو عند ابن رشد, إنما تمثل شعاراً لحقبة تاريخية مفصلية في الحضارة العربية, قوامها التدشين لحركة تقود دفة تلك الحضارة نحو حرية معرفية وعقدية واسعة, وهو ما كنت أحمد الله تعالى حينها أن قيض لها رعيل" من تمنطق فقد تزندق", ليجهضها في وقتها! إلا أنني أدركت بعد فترة مخاضات فكرية أن تلك الفترة التي اضطر فيها مثقفون تقدميون أمثال الغزالي وابن رشد إلى قصر الإفصاح عن آرائهم الخاصة على مجالسهم النخبوية, إنما هي مؤذنة بدخول ظهر الإسلام وعصره, بعد أن كان المسلمون, كما غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى, يتمتعون في فجره وضحاه بحرية فكرية وعقدية واسعة, لم يكونوا يضطرون خلالها إلى شيء من تلك التراتبيات التي تحدث عنها الغزالي وابن رشد. لقد بلغت الحضارة العربية الإسلامية في فجرها كما في ضحاها, شأناً عالياً من الحرية الفكرية, بحيث كان المثقفون والمفكرون والفلاسفة من ذوي الأديان المختلفة, سواء أكان في الأندلس, أم في القيروان, أم في بغداد, أم في غيرها من حواضر العالم الإسلامي, يعقدون مناظرات علمية فيما بينهم لمناقشة قضايا الفكر والعقيدة. وكانوا قبل المناظرات يشترطون على بعضهم البعض عدم الاستشهاد بالنصوص الدينية, والاكتفاء بالمناقشات المنطقية والعقلية, فيقبل المسلمون ذلك على غير مضض, ثم تجري المناظرات بهدوء, وينصرف بعدها كل إلى شأنه, دون أن يثير ذلك حفيظة أحد من الناس, سواء أكانوا من أهل العلم, أم من العامة. وكانوا خليطا من المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة, بل والملاحدة. يذكر أبو حيان التوحيدي( 310 414 ه) في كتابه الشهير( الإمتاع والمؤانسة) أن أبا سليمان السجستاني, أكبر مناطقة بغداد آنذاك, كان يعترض على الذين يريدون دمج الفلسفة بالدين, كإخوان الصفاء, مؤكداً استقلال كل منهما وانفصاله عن الآخر, فيقول: " إن الفلسفة حق لكنها ليست من الدين في شيء, والدين حق لكنه ليس من الفلسفة في شيء. ومن أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن جميع الديانات, ومن اختار الدين فيجب عليه أن يعرض بعنايته عن الفلسفة". ولم يطالب أحد حينها بإيقافه أو بسجنه, ناهيك عن المطالبة بقتله (مرتدا!) بل إن مثقفي المقابسات الذين تحدث عنهم التوحيدي في كتابه السابق ذكره, كانوا, كما يقول الجابري في كتابه( المثقفون في الحضارة العربية), "من ديانات مختلفة, فإذا كان غالبيتهم من المسلمين, فإن جل المناطقة والأطباء منهم, والمهتمين بالعلوم القديمة كانوا مسيحيين ك( يحيى بن عدي, وعيسى بن علي, وابن زرعة, وابن الخمار). بل إن فيهم المجوسي والصابئ والملحد, وهم على هذا التنوع والاختلاف عاشوا في جو من الحرية الفكرية والتسامح الديني قل نظيره, فقد طُلب من أبي إسحاق بن هلال الصابئ أن يعتنق الإسلام فامتنع, فتُرك وشأنه. كما ألف يحيى بن عدي, علاوة على ترجماته ومؤلفاته في المنطق والعلوم والأخلاق, عدة مقالات ورسائل وكتب في اللاهوت المسيحي, دافع فيها عن العقيدة المسيحية ضد انتقادات المتكلمين الإسلاميين, أو ضد الفرق المسيحية الأخرى التي تخالف اليعقوبية: فرقته". ويعلق مثقف عربي معاصر هو الدكتور: هاشم صالح على تلك الأجواء الفكرية المتسامحة:" من يصدق ذلك الآن؟ هذا الشيء حصل قبل حوالي الألف سنة، ولكن يستحيل حصوله الآن في البيئات الإسلامية المعاصرة بسبب سيطرة التقليد والتحجر العقلي والانغلاق المزمن والطويل". والأهم من ذلك كله أن حرية التعبير الواسعة إبان فجر الإسلام وضحاه, كانت تمد بسبب إلى القرآن الكريم ذاته الذي أرسى أسساً متينة لها, لعل من أبرزها احترام آراء الخصوم, والإتيان بها في سياق الجدل مع أهلها كاملة غير منقوصة, إذ لم يستثن منها حتى تلك التي تعرضت للذات الإلهية, أو لذات النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم, ليكتفي بعد ذلك بتفنيدها بتسامح, لا أقول قل نظيره في التاريخ البشري فحسب, بل إنه لا شبيه له ولا نظير. وسنواصل الحديث عن هذا المحور في الجزء التالي من المقال.