بالوقت الذي كان يهدد النظم العربية مواجهات كالإرهاب والتدخل الأجنبي أو تحديات داخلية كتلك الفئوية، طائفية أو قبلية، وحركات المعارضة التقليدية، في هذا الوقت ظهر مصدر للتهديد لم يكن بالحسبان.. إنهم أفراد مسالمون مدنيون لا يحملون إيديولوجيا ولا أجندة ولا تنظيماً.. لقد ظل الإرهاب لسنين طويلة يفُجِّر دون أن يهز نظاماً واحداً، وظلت حركات الإسلام السياسي تزعم أن معها الأغلبية ولكنها لم تنجح، أما هؤلاء المسالمون ففي غضون أشهر هزوا الأنظمة العربية حتى أسقطوا نظامين، وربما يلحق بهما قريباً أنظمة أخرى. في الواقع العالم كله اهتز! فما هي القوة التي يملكها هؤلاء؟ ربما هي قوة الحق الطبيعي، فمثلاً لا يستطيع نظام مهما بلغت قوته أن يسحق احتجاجات شباب عاطل يطالب بحقه الطبيعي في العمل.. وبدرجة مشابهة لا يستطيع النظام أن يسحق احتجاجات ضد القمع والفساد والفقر، دون أن يضطر هذا النظام لمواجهة العالم.. ما شهدناه من ثورات في العالم العربي يوضح أن مصدر الثورة هو الطبقة الوسطى. فشباب ساحة التحرير في القاهرة من فئة خريجي الجامعات من جيل الإنترنت، أي من الطبقة الوسطى.. وحتى بو عزيزي مشعل الثورة التونسية لم يكن مجرد بائع متجول من الطبقة الفقيرة، بل خريج جامعي.. كيف حركت الطبقة الوسطى الثورات العربية؟ لعل خوف الشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى على مستقبلها والتحول التدريجي لنسبة كبيرة منها إلى الطبقة الكادحة أو الفقيرة، ورؤيتها لمستقبل متدهور جعلها تشعر بالخطر المحدق لمستقبلها! في الوقت الذي وفر الإنترنت وشبكاته الاجتماعية والفضائيات مناخاً مساعداً للثورة.. إلا أن هناك من يرى أن تلك الثورات لم تكن لأسباب اقتصادية، فتونس تُعَدّ ناجحة اقتصادياً، فقد كتب الحقوقي جولدشتاين: خلال رحلاتي إلى تونس، كنت أملّ من سماع المعارضين التونسيين وهم يقولون لي إن الناس سيهبّون في أي لحظة ويثورون.. وكنت أقول لنفسي: احلموا احلموا! فهذا البلد لم يكن مهيئًا للثورة، فأي شخص يزور المنطقة يمكنه معرفة أن التونسيين يتمتعون بمستوى معيشة وجودة حياة أعلى نسبياً، فمتوسط دخل الفرد في تونس ضعف مثيله في المغرب ومصر، وأعلى من الجزائر التي لديها نفط.. لكن هذا المعيار لا يأخذ في الاعتبار المستوى التعليمي والوعي الطبقي والسياسي للطبقة الوسطى، لذا ترجع صحيفة «درنير نوفل دالزاس» الفرنسية الفضل في الإطاحة بنظامي مبارك وابن علي إلى «عزيمة الطبقة الوسطى»، واصفة هذه الطبقة «بالقوى الطامحة التي لن يمكن التحكم فيها بعد الآن كما كان الحال مع جموع الأميين قبل أربعين عاماً». ومن هنا، ختم جولدشتاين مقاله: أصدقائي التونسيون كانوا على حق: الدولة البوليسية تبدو مستقرة إلى أن يأتي يوم يتبيّن أنها ليست كذلك». ماذا تعني عبارة «جموع الأميين قبل أربعين عاماً»؟ تعني من عدة معان أن الطبقة الوسطى لم تتشكل كبرجوازية وطنية، بقدر ما كان هناك نخب عسكرية تشاركها نخب مثقفة طامحة للتغيير. فعندما رحل الاستعمار ترك خلفه دولاً تشكّلت وحصلت على الاعتراف الدولي بها. هذا الاعتراف كان ضرورة لشرعية وجود الدولة النامية، لكنها تفتقر لأسس أخرى غير الأساس القانوني، كالاقتصادي والاجتماعي، مما جعلها عرضة للاهتزازات المستمرة، وجعل البعض يعتبرها دولاً هلامية، تتغير بتغير النظام السياسي الحاكم. نعم هي دول حصلت على الشرط الخارجي وبنت جهازها العسكري والسياسي لكنها لم تحصل على أهم الشروط الداخلية. وذلك على نقيض الدولة الغربية الحديثة التي تطوَّرت داخلياً ككيان سياسي وعسكري واجتماعي واقتصادي ثم سعت للاعتراف القانوني الخارجي بوجودها. فكثير من الدول النامية التي تحرَّرت من الاستعمار لم يتسن لها تراكم رأسمالها وبناء اقتصادها الوطني. ويسجل نزيه الأيوبي كيف أن بعض المحللين لاحظوا أن الدول التي استقلت قبل الحرب العالمية الثانية أي قبل تبلور الاقتصاد الرأسمالي العالمي (كدول أمريكا اللاتينية والبلقان) قد كانت أقدر على تحقيق درجة أعلى من الاستقلال وعلى تطور برجوازية وطنية وتراكم رأس المال الوطني من الدول التي حصلت على استقلالها بعد تلك الحرب. وإذا كانت الدول العربية لا تفتقد الشرط الاجتماعي بوجود أمة وطنية، فإنها تفتقد للشرط الاقتصادي. لقد رحل الاستعمار وترك الدول العربية التي استعمرها كوجود قانوني واجتماعي، ولكن بلا اقتصاد وطني فعلي، بلا برجوازية وطنية؛ إذ إن اقتصاد الدولة لم يتأسس في تلك المجتمعات على البرجوازية الوطنية، وإنما على برجوازية أجنبية وبرجوازية طفيلية ملتحمة بالأجنبي، وأخرى وطنية ضعيفة. ولأن الاقتصاد الوطني كان هشاً والبرجوازية الوطنية كانت ضعيفة، كان لا بد للنظام السياسي أن يملأ الفراغ ويدير الشأن الاقتصادي، وأصبحت الحكومة تسيطر على عمليات الإنتاج الاقتصادي وتقود الطبقات الاجتماعية، فصارت تلك الطبقات هامشية وخاضعة للدولة وليس لتطورها الاجتماعي ولا لقوانين السوق. كان يفترض أن يقتصر دور الدولة على الحماية والتنظيم لا الاستحواذ على المجال الاقتصادي، فمنذ بداية تشكل الدولة الوطنية الحديثة، أثبتت التجارب أن سيطرة الدولة الكاملة على الاقتصاد أدت إلى تدمير الاقتصاد ثم الدولة نفسها. إذن، صارت الحكومة تمتلك الجيش والاقتصاد ومؤسسات المجتمع الدينية والدنيوية، إضافة لجهازها البيروقراطي الضخم الذي يمتلك السلطات كافة (التشريعية والتنفيذية والقضائية). لقد أصبحت الحكومة تسيطر على كافة مفاصل الحياة، أكثر حتى من الدولة الشمولية في القرون الوسطى، التي لم تكن تتدخل في الشأن الاجتماعي والاقتصادي إلا في حدود خاصة في ما يمس الأمن والضرائب وعقيدة الدولة. هذا يفسر أزمة الديمقراطية في الدول العربية، ويفسر إصرار النخب المثقفة على أن المدخل لحل الأزمة هو الديمقراطية، فيما أصرت نخب دينية على الرجوع لما كان عليه السلف، بينما خرجت بعض الحركات على الدولة ككل مستخدمة العنف. إلا أنه لم تنجح أية حركة من تلك الحركات، ربما لأنها لم تستند إلى المحرك الرئيسي للمجتمع: الطبقة الوسطى. إنما خلال الأشهر الأخيرة بدأت الصورة العربية تتغير، وانقلبت رأساً على عقب في بعض البلدان. الطبقة الوسطى هي التي أعطت مصطلح «الشعب» دلالة جديدة تجعل منه القائد بعدما كان مقوداً. لكن، كيف تستطيع هذه البلدان الخروج من مأزقها؟ الإجابة عند الطبقة الوسطى! ولذلك مقال قادم.