الليبرالية في العالم العربي 2-4 في المقالة السابقة تناولت مفهوم الليبرالية بشكل عام بوصفها أيديولوجية تقوم على مبدأ الحرية في المجالات الحياتية المختلفة ، والإعلاء من شأن الفرد واستقلاله ، كما أشرت إلى شيء من النقد الموجه لها . وفي هذه السطور سوف أستعرض انتقالها إلى العالم العربي من حيث ظروف النشأة و العوامل التي أدت إلى ذلك ، وأبرز القضايا التي ركزت عليها الليبرالية العربية والتجسيدات المؤسسية لها والمتمثلة في الأحزاب السياسية : الليبرالية في العالم العربي- البدايات بغض النظر عن العوامل الخارجية ومنها سقوط الخلافة ، والتوسع الأوربي، إلا أن وضع الأمة العربية ، وترتيبها الحضاري في ذيل القائمة، ثم انبثاق الطبقة الوسطى ، وانتشار العلم والمطبوعات وحركة الترجمة والوعي فيما بين أفرادها ، جعل كثير من المثقفين والمفكرين بداية من منتصف القرن التاسع عشر يتساءلون ؛ لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون ؟ وكانت إجاباتهم على ذلك السؤال مختلفة ، بحسب الانتماء الفكري ، والطبقي أو الخلفية الاجتماعية والفكرية ، ومن هنا تشكلت مجموعة من التيارات الثقافية كالسلفي والليبرالي والاشتراكي والقومي . يرجع هلال نشأة التيار الليبرالي إلى سقوط الخلافة العثمانية ، وبروز أوربا كقوة عسكرية وتكنولوجية ، وتأثيرات الحملة الفرنسية مثل صعود الحركات الدستورية ، وانتشار التعليم المدني الحديث ، والترجمة بمساهمة المثقفين القادمين من بلاد الشام ... أما الأنصاري فيشير إلى مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 كفرصة سانحة لنشر الديمقراطية الغربية ، وقيمها الليبرالية في العالم . وسقوط الإمبراطوريات الاستبدادية في روسيا ، وألمانيا ، والنمسا ، والدولة العثمانية ، على أيدي قوى الديمقراطية العريقة في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية. ومعاهدة \"سايكس-بيكو\" والتأثيرات الحضارة الأوربية الحديثة التي سبقت ذلك منذ غزو نابليون لمصرعام1798 ، وعبر أجيال من المفكرين من رفاعة الطهطاوي ، وبطرس البستاني ، ومحمد عبده ، ثم الفرع التغريبي من مدرسته مثل لطفي السيد ، وقاسم أمين ، واحمد فتحي زغلول...ورأى أن تلك الأفكار ظلت عاجزة عن الانغراس في التربة العربية الإسلامية ولم تتجذر فيها بقوة ، بالإضافة إلى أن السلطة الأوربية المحتلة ذاتها لم تكن مخلصة في نقل نظمها المتطورة. ويشير منسي إلى تأخر الليبرالية في دخولها إلى مصر قرنين من الزمان عن ظهورها في أوربا ، ويرى أنها كانت على عكس ارتباطها بالبرجوازية في أوربا ، فإن دخولها مصر كان بفعل التحول الذي طرأ على الاقتصاد العالمي في القرن التاسع عشر ، والذي أتاح للدول الرأسمالية التغلغل في الدول المتخلفة. وفي هذا الخصوص يعتقد بأن العامل الهام هو نمو الرأسمال الأجنبي في مصر ، على يد العناصر الأجنبية ، التي استثمرت أموالها في مصر بشكل كبير، وخاصة منذ عهد إسماعيل بالتحالف مع كبار الملاك خاصة الزراعيين. كما يرى أن مطلع القرن العشرين هي أكثر فترات النشاط الفكري والحركي لليبرالية في مصر ، مؤكداً على الطابع النضالي ضد الحكم الأجنبي للاتجاه الليبرالي ، راصداً بعض العوامل الاجتماعية التي دفعت قدما بذلك التيار وهي : 1- انهيار العنصر التركي في المجتمع المصري وانحصار دوره الاجتماعي والسياسي. 2- القضاء على الرق 3- اتساع المدن 4- ضعف النفوذ الاقتصادي والسياسي لرجال الدين. وقد رصد فيلالي مجموعة من الحركات والأحزاب الليبرالية في العالم العربي ؛ ففي مصر ظهرت مجموعة من الأحزاب السياسية ذات الطابع الليبرالي في مطالبها ، ولاحظ أنها ضد الغرب سياسيا .. ومنها الحزب الوطني الذي نشأ عام 1879 مطالباً بحكم شوري ، وإطلاق الحريات ، ووحدة الأقباط والمسلمين في إطار الوطنية ، وتزامن مع ذلك ظهور حزب مصر الفتاة الذي كان أغلب مؤسسيه من المثقفين ، حيث طالب بفصل السلطات ، والمساواة أمام القانون وحرية الصحافة . كما نشأ حزب الوفد في عام 1919 كحزب يعمل على تحقيق الاستقلال ، وبناء الديمقراطية ، وإصلاح التعليم ، وأحوال المستضعفين... و في المشرق العربي يذكر أن الحكومة العراقية أجازت عام 1946 تشكيل خمسة أحزاب سياسية ؛ هي حزب الاستقلال ، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي ، وحزب الاتحاد الوطني، وحزب الشعب . ففيما كان حزب الأحرار يميل إلى اليمين ، وكان حزب الاستقلال ينادي بالإصلاح الجزئي من موقع يميني ، كانت الأحزاب الثلاثة الأخرى يتنازعها البرجوازيون والوطنيون واليسار .. ونشأت في سوريه في المرحلة السابقة لقيام الأحزاب العقائدية تكتلات ، تهتم بقضايا الاستقلال ، وتسيطر عليها العائلات الارستقراطية ، مع بعض البرجوازية الوطنية . ومن هذه التكتلات حزب الاستقلال العربي ، حزب التقدم، وحزب الاتحاد السوري ، واللجنة الوطنية العليا ، والحزب الديمقراطي ، والحزب الوطني السورين ، والكتلة الوطنية، وعصبة العمل القومي العربي، وحزب الشعب والحزب الوطني. وتكون في المغرب العربي ثلاثة أحزاب ، سيطرت عليها البرجوازية الوطنية ، وهذه الأحزاب هي: الحزب الدستوري في تونس ، وحزب الاستقلال في المغرب ، وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في الجزائر. وسيطر على هذه الأحزاب قادة من النخبة المثقفة في المدن الكبرى بدعم من برجوازية المدن. وحين ننظر إلى تركيب تلك الأحزاب وتحولاتها نجد مايلي : تأسس الحزب الدستوري التونسي في تونس عام 1920 وأعيد تنظيمه عام 1934 باسم الحزب الدستوري الجديد ، مستوعبا البرجوازية الصغيرة ، ومن ورائها الجماهير في صراعها من أجل الاستقلال. وفي حين نجح الحزب الدستوري الجديد في تونس في أن يصبح الحزب الوحيد الحاكم بعد الاستقلال ، ويؤسس نظاما ليبراليا غربيا ، عرف المغرب الأقصى تعددية في الأحزاب السياسية بعد الاستقلال ، ومن هذه الأحزاب ؛ حزب الاستقلال ، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، الذي تحول فيما بعد إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وفي الجزائر كان هناك حزبان هما: حزب الشعب الجزائري ، وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري . وعلى الرغم من أن كليهما كانا يدعوان إلى حصول الشعب الجزائري على حقوقه السياسية والاقتصادية ، إلا أنهما يختلفان ايدولوجيا ؛ فحزب الشعب ركز في كفاحه السياسي على المطالبة بالاستقلال التام وبحرية الصحافة والاجتماع ، وتأسيس النقابات العمالية ، وبإجراء انتخابات حرة وديمقراطية ، وبفرض التعليم الإلزامي باللغة العربية ، ومصادرة الأملاك الكبيرة وإعادتها إلى الفلاحين. وبذلك يكون حزب الشعب قد جمع بين التحرير السياسي والإصلاح الاجتماعي . لكن هذا الحزب عرف صراعات سياسية داخلية أدت إلى حله عام1953 وقامت على أنقاضه جبهة التحرير الوطني عام1954. أما حزب الاتحاد الديمقراطي فكان يهدف إلى إدخال إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية كمرحلة أولى في عملية إدماج المجتمع الجزائري في المجتمع الفرنسي، مع الاحتفاظ بالتشريعات الإسلامية التي تنظم حياة الجزائريين . لكن مطالب هذا الحزب قوبلت بالرفض من طرف الأهالي والمستعمرين على حد سواء. وقد دخل هذا الحزب ميدان السياسة في الثلاثينات من هذا القرن، واضطر إلى تعديل مواقفه الاندماجية بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث طالب بإنهاء الاستعمار، وإدخال اللغة العربية كلغة رسمية. وكانت الشريحة الاجتماعية المناصرة لهذا الحزب تتشكل أساساً من طبقة برجوازية متوسطة ضمت أطباء ومحامين وضباط متعاقدين ومعلمين. وبعد أفل من سنتين من اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954 اضطر هذا الحزب إلى وضع حد لنشاطه السياسي والتحق بعض أعضائه بالثورة مقدمين لها خدمات جليلة. القضايا شغلت الليبرالية العربية بمجموعة من القضايا وهي: التشديد على الديمقراطية البرلمانية الدستورية ، وإنشاء الأحزاب والنقابات وعلى مشاركة المثقفين والمهنيين والتنفيذيين في الحكم ، الانفتاح على الغرب واتخاذه نموذجاً للتنمية، وعلى العلم والعقل وتغيير الذهنية السائدة عن طريق التربية وبواسطة النخب المثقفة، وبشكل تدريجي دون اهتمام بتحول النظام والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . وتقييد سلطة الحكام بأشكالها المختلفة ، وتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين ، ونشر التعليم المدني الحديث، بتدريس مواد علمية حديثة، وتشجيع حركة الترجمة ، وتطوير الصحافة السياسية والاجتماعية ، وظهور مجموعة من الأحزاب السياسية التي دعت إلى الحكم الدستوري ، وإقامة حياة نيابية تقوم على انتخابات حرة ، وضرورة الفصل بين السلطات ، ومساواة المواطنين أمام القانون ويقول بركات أن الأحزاب الليبرالية العربي الليبرالية في الوطن العربي حاولت أن تتخذ من مفهوم الإصلاح الليبرالي الغربي المرتكز على مقولة التحديث modernization نموذجاً بإتباع السبل التالية: 1-تبني النظام الرأسمالي والانفتاح على النظام الاقتصادي العالمي الغربي. 2-التحرر من القيم العربية التقليدية وتبني قيم غربية بديلة.. 3-تعزيز التربية والتنشئة الاجتماعية التي تهدف إلى بناء شخصية طموحة مستقلة منفتحة الذهن 4-بناء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. وتعول تلك الأحزاب الليبرالية على النخبة المثقفة والطبقة الوسطى بشكل عام في أخذ زمام المبادرة في تنمية المجتمع ، ولذلك يركزون على التربية والتعليم والتدريب في شتى المهارات الإنسانية ، واستيراد التكنولوجيا الحديثة، واستبدال القيادات التقليدية بقيادات جديدة ، وعلى التعاون مع المجتمعات المتقدمة في الغرب . والهدف من ذلك كله النمو الاقتصادي ، وتحسين مستوى المعيشة والمشاركة في الحياة العامة ، وتثبيت الاستقرار على قاعدة إصلاح النظام من فوق تجنباً لحصول ثورة شعبية من تحت. وعادة ما يتجنب الاتجاه الليبرالي مقولة التحليل الطبقي ، ويقولون بالتكامل بين الطبقات ، وبين الدول المتخلفة والدول الغربية ، وينزعون إلى اعتبار التحديث حالة عقلية ، ولذا فهم يؤكدون على تغيير القيم والأدوار ، والنظر إلى الواقع أكثر مما يقولون بتغيير البنى الاجتماعية والاقتصادية والنظام العام. ومن القضايا التي اهتم بها الفكر الليبرالي العربي قضية المرأة ، فأصدر البستاني كتابه \" تعليم النساء في عام1849، وكتب أحمد فارس الشدياق كتابه \"الساق على الساق\" في عام 1855، ودعا الكواكبي في كتابه \" أم القرى\" إلى تحرير المرأة من الجهل ، وسار في نفس الاتجاه سليم البستاني، واسعد داغر، وقاسم أمين ، الذي ارتبط اسمه بقضية تحرير المرأة حتى أنه لقب بمحرر المرأة. لقد ركز قاسم أمين على موضوع حرية المرأة في كتابه\"تحرير المرأة\" الذي صدر عام1899 وكتابه\" المرأة الجديدة \" الذي صدر عام 1900 حيث ربط أمين بين وضع المرأة والوضع الاجتماعي العام ، فأرجع اضطهاد المرأة إلى شيوع الاستبداد السياسي في المجتمع ، وأكد على مفاهيم الحرية وخاصة الحرية الفردية ، وحرية التعبير والاعتقاد. كما صدر عدد من المجلات النسائية في مصر مثل؛ مجلة الفتاة (1892) و\"العائلة\" (1899) و\"المرأة\" و \"المرأة في الإسلام\" و \"شجرة الدر\" (1901). وفي بيروت صدرت مجلة \"أنيسة الجليس\" (1898) و \" فتاة لبنان\" (1914) . وفي دمشق صدرت \"العروس\" (1911) يتبع... [email protected] لمشاهدة الجزء الاول من المقالة اضغط هنا