عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى وعضو الجمعية الفقهية السعودية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد : فقد فاجأنا سعادة الدكتور أنور بن ماجد عشقي في ملحق الرسالة بصحيفة المدينة، بتاريخ 28/6/1431ه ونشرته - انباؤكم - هنا بمقال غريب عجيب، تمنيت من الدكتور أنور أن لم يكن خطَّه بيده! وكان تحت عنوان: «الجنة منزهة عن الجنس والحور العين ليسوا للمتعة الحسية!». وقد خلَّط الكاتب في مقاله تخليطاً عجيباً، وتبنَّى أحكاماً وآراءًا لم يبنها على دليل، وأتى بأشياء غريبة ما قال بها أحد من أهل العلم والبصيرة 00 وقد زعم في مقاله أشياء : 1- إنكار وجود الممارسة الجنسية في الجنة ؛ لأنها منزهة عن الجنس على حدِّ زعمه. 2- أن الجنة تنعدم فيها الدواعي الجنسية. 3 - أن الأعضاء والأجهزة التناسلية سوف تختفي عند الإنسان في الدار الآخرة. 4 – أن وجود الحور العين في الجنة ليس للمتعة الجنسية. 5 – أن الجنة ليس فيها تلك الغرائز التي كانت لدى الإنسان في الدنيا، بل تنعدم في الجنة معظم الغرائز. 6 – أن الله تعالى لم يخرج آدم وزوجه من الجنة إلى الأرض بسبب المعصية التي ارتكباها، بل بسبب ظهور السوأتين بعد أكلهما من الشجرة. 7 – أن أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام لم يكن لهما سوأتان عند بدء الخلق. 8 – أن الأنبياء عليهم السلام لم يعبدوا الله لأجل الجنة ونعيمها، ولا خوفاً من النار وشررها، بل عبدوه حباً لذاته. ولذا رأيت من الواجب الرد على مقال الدكتور أنور ومناقشته في مزاعمه التي فاجأ بها الجميع في مقاله المشار إليه أعلاه. أولاً : عوَّدنا الدكتور أنور عشقي – وهو صاحب مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية – على الظهور في الفضائيات محللاً سياسياً واستراتيجياً بامتياز، معلقاً على تداعيات العقوبات على إيران بسبب إصرارها على امتلاك الطاقة النووية .. أو تعليقاته على الضربات الاستباقية التي قامت بها الجهات الأمنية بالمملكة على الإرهابيين وأوكارهم .. أو مداخلاته بشأن اعتداءات الحوثيين الظالمة على أراضي بلادنا الطاهرة، وغير ذلك من الأحداث السياسية والأمنية، وهي أمور يحسن الدكتور فيها الكلام أيضاً بامتياز00 فما باله في هذا المقال يحشر نفسه ويتكلَّم في أشياء لا يحسنها، وليست في مجال تخصصه، ولا بما يهتم به مركزه!! وعليه فإن الكاتب طار في غير مطاره، وقد قيل قديماً: « من تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب !». ثانياً : تعجبت بشدة من إصرار الدكتور أنور على أن الجنة منزهة عن الجنس على حدِّ تعبيره، وهذا الذي يشير إليه الدكتور أمر غيبي ينكره – هكذا - دون أن يستدلَّ بدليل واحد على ما ادَّعاه! وقد بيَّن في أول مقاله أن الذي دعاه للكتابة عن الجنس في الجنة أمرين. أشار إلى أولهما بقوله: استغلال الإرهابيين للشباب من المراهقين والإيحاء لهم بأنهم إذا قاموا بعملية انتحارية وقتلوا ودمروا فإنهم يصبحون شهداء، وحال موتهم تستقبلهم الحور العين في الجنة. والأمر الثاني الذي دعا الدكتور أنور للكتابة عن الجنس في الجنة ما أشار إليه بأنه وجد عدداً من طلبة العلم وكبار المثقفين يعتقدون بوجود الممارسة الجنسية في الجنة! فالدكتور – كما ترى – متأثر مسبقاً بما يقوله زعماء الإرهابيين والمنظمون لتلك العمليات الإرهابية الآثمة التي اكتوت بها بلادنا في فترة مضت، حيث إنهم يغررون بالشباب والمندفعين بمثل هذه الإيحاءات! والواقع أن هذا الذي يفعله أولئك الإرهابيون باطل ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً، وهو لعب بعواطف وغرائز ونوازع الشباب الصغار والسُّذج منهم؛ ولكن هذا لا يجعلنا يا دكتور ننكر ما هو ثابت من جملة نعيم أهل الجنة مما يمنَّ الله به على عباده المؤمنين الصادقين فيها! فكون الإرهابيين يدغدغون مشاعر الشباب بالحور العين، فلا يجعلك ذلك يا دكتور أنور – وبجرَّة قلم - تنكر الاستمتاع بهن جنسياً؛ حتى لا توافق ما يقوله الإرهابيون؟! فأصحاب الأهواء والضلال يستدلون غالباً بما يستدل به أهل الحق ليلبسوا على الناس دينهم، وليس معنى هذا أن نترك الحق الذي نحن عليه لأجل مشابهة أهل الزيغ والضلال واستدلالهم بالحق الذي عندنا. ومن ذلك أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا يرغِّبون المجاهدين عند التحام الصفوف بالحور العين! وأظنك تتعجب من ذلك وتستغرب دكتور أنور! روى ابن أبي شيبة – بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر -، عن أبي الرضا، سمعت عماراً يوم صفين يقول: « من سرَّه أن يكتنفه الحور العين فليتقدَّم بين الصفين محتسباً ». اقرأ معي دكتور أنور قول الحقِّ سبحانه: ﴿إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون﴾. ألا تعلم يا دكتور أن هذا الشغل الذي انغمر فيه أصحاب الجنة وألهاهم عن غيره هو افتضاض العذارى، وهو ما يسميه الدكتور (الممارسة الجنسية!). وهذا الذي أذكره ينقض مقال الدكتور أنور من أساسه، وهو عليه جمهور المفسرين، وعلى رأسهم أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ومواضع نزوله ؛ أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو قول ترجمان القرآن ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه التأويل، الحبر البحر أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقد نقل الحافظ ابن كثير (3/571) عنهما، وعن سعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله تعالى: ﴿إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون﴾، أنهم قالوا: « شُغْلهم افتضاض الأبكار ». وهو أيضاً قول سفيان الثوري رحمه الله كما في «تفسيره» (ص251). قال ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى - (23/18): « وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلَّ ثناؤه: ﴿إن أصحاب الجنة - وهم أهلها - في شغل فاكهون﴾، بنعم تأتيهم في شغل، وذلك الشغل الذي هم فيه نعمة، وافتضاض أبكار، ولهو، ولذة، وشغل عما يلقى أهل النار ». وإليك دكتور عشقي وإلى جمهور القراء أسوق بعض النصوص الدالة على استمتاع أهل الجنة في الجنة بالجماع، وهو ما يسميه الكاتب (الممارسة الجنسية!) : 1 – عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع». قيل: يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال: «يُعطى قوة مائة». أخرجه الترمذي وقال: صحيح غريب. وقال الألباني (2059): حسن صحيح. 2 – وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه مرفوعاً: « إن الرجل من أهل الجنة ليُعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة ». أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه. 3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله! هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء». أخرجه الطبراني والمقدسي في «صفة الجنة» وقال: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح. 4 – وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيجامع أهل الجنة؟ قال: «دحاماً دحاماً، ولكن لا منيّ ولا منية». أخرجه الطبراني في «الكبير»، وأبو يعلى، والبيهقي في «البعث والنشور». وفي لفظ: «هل تتناكح أهل الجنة؟». وفي آخر: «هل تتناك أهل الجنة؟». وفي ثالث قالوا: «هل تمسُّ أهل الجنة أزواجهم؟». وفي رواية أجاب عليه الصلاة والسلام: «دَحْماً دَحْماً». * ومعنى قوله : « دَحْماً دَحْماً » : قال ابن الأثير في «النهاية» (2/106): « هو النكاح والوطء بدفع وإزعاج، وانتصابه بفعل مضمر، أي يُدحمون دحماً، والتكرير للتأكيد، وهو بمنزلة قولك: لقيتهم رجلاً رجلاً، أي دحماً بعد دحمٍ ». 5 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله! أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نُفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «والذي نفسي بيده! إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء». أخرجه أبو يعلى والبيهقي في «البعث والنشور». قال ابن القيم في «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»: « وأكمل الناس فيه – يعني في الاستلذاذ بالجماع - أصونهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام، فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن أكل في صحاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ، فمن استوفى طيباته ولذاته وأذهبها في هذه الدار حُرمها هناك ». وقد بوَّب أئمة الحديث على هذه الأحاديث ما يفيد تقرر هذا الأمر عنده، مثل: باب شهوة أهل الجنة 00 بابٌ في جماع أهل الجنة 00 باب ما جاء في صفة جماع أهل الجنة، باب في ذكر نكاح أهل الجنة ووطئهم والتذاذهم بذلك أكمل لذة، ونزاهة ذلك عن المذي والمني والضعف، وأنه لا يوجب غسلاً، ونحو ذلك. ثالثاً : هذا الجماع وتلك المباشرة التي دلَّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية يقع من المؤمنين في الجنة بأعضائهم التناسلية التي كانت معهم في الدنيا، لا كما يقول الكاتب بأنها تختفي ولا توجد في الجنة! لأن الجنس مجموعة من الخصائص الفسيولوجية والتشريعية والسلوكية نشأ بسبب انقسام الناس إلى ذكور وإناث، فقام بدور جذب الإنسان نحو الآخر بسبب الميول الفطرية ... إلى آخر كلام الدكتور الفلسفي الذي لا طائل تحته ألبته! ولهذا ؛ فإني أقول: إن المؤمنين إذا أكرمهم الله تعالى بدخول جنته، وإحلالهم رضوانه، فإنهم يتمتعون ويتلذذون بنعيمها، وما أعدَّه لهم فيها على النحو الذي كانوا يتمتعون به في الدنيا؛ مع التفاضل في اللذة والنفاسة مما لا يشبهه لذة ونعيم في الدنيا! كما قال الحقُّ سبحانه: ﴿قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة﴾، وقال عز وجل: ﴿وأُتوا به متشابهاً﴾. قال النووي - رحمه الله تعالى - في «شرح مسلم» (17/173): « مذهب أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعماً دائما لا آخر له ولا انقطاع أبداً، وأن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة ». ونقله الحافظ ابن حجر في «الفتح» (6/325)، والعيني في «عمدة القاري» (15/155) في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. وبهذا تعلم أن قول الكاتب عند ذكر الأمر الثاني الذي دعاه للكتابة في هذا الموضوع؛ أنه وجد عدداً من طلبة العلم وكبار المثقفين يعتقدون بوجود الممارسة الجنسية في الجنة؛ من المغالطات! وأنا أقول للدكتور: إن طلبة العلم، وكبار العلماء، وكبار المثفقين – على حدِّ تعبيرك -، بل وجميع المسلمين على هذه العقيدة التي دلَّ عليها القرآن والسنة، وليس كما تخيَّلت وتوهَّمت. والحمد لله رب العالمين. رابعاً : زعم الدكتور أنور عشقي أن الجنة ليس فيها تلك الغرائز التي كانت لدى الإنسان، وعاد مرةً فأشار إلى أن معظم الغرائز تنعدم في الجنة! وهو من فلسفة الكاتب التي عَرَتْ عن دليل. وأقول : إن الغرائز التي أودعها الله في عباده ستبقى معهم وإن دخلوا الجنة، وحاجتهم إليها في الجنة ستكون من كمال اللذة والمتعة. فعلى سبيل المثال : غريزة حبِّ الزرع ستبقى عند من يحب ذلك ويميل إليه في الجنة، فقد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً يحدِّث وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع. فقال له: ألستَ فيما شئتَ؟! قال: بلى؛ ولكني أحبُّ أن أزرع. قال: فبَذَرَ، فبادر الطرْفَ نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال! فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء. فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم في «حادي الأرواح» : « وهذا يدل على أن في الجنة زرعاً، وذلك البذر منه، وهذا أحسن أن تكون الأرض معمورة بالشجر والزرع ». كما أن غريزة حبِّ الولد وإنجابه ستكون في الجنة، بحيث إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة ؛ كان له ذلك وفي وقت وجيز. صحَّ عند ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وشبابه كما يشتهي في ساعة ». وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط. وبه يتبيَّن وَهْمَ الدكتور عشقي فيما زعم، وأن الغرائز والنوازع والرغبات التي كانت في الدنيا لا تنقطع في الجنة. حتى إن بعض أهل العلم ذهب إلى أن المؤمن في الجنة يُتمم له ما كان يفعله من أعمال قطعه عنها الموت، ويمكن أن يُمثل لذلك بمن كان يحفظ القرآن ويشتغل بذلك، ثم يموت قبل أن يتم حفظه؛ قالوا: فمثل هذا يتمم حفظه للقرآن في الجنة، ويكون من جملة ما يلتذُّ به في الجنة. ويستدلون على ذلك بما أخرجه البخاري في «الصحيح» عن البراء رضي الله عنه قال: لَمَّا مات إبراهيمُ عليه السَّلامُ – يعني ولد النبي صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إِنَّ له مُرْضِعًا في الجنَّة». يعني تكمل رضاعه. خامساً : ذكر الكاتب أن الله تعالى لم يخرج آدم وحواء من الجنة بسبب المعصية، بل بسبب ظهور سوأتيهما! وهو كلام عار عن الصحة، إذ أن ما ذكره الله سبحانه في كتابه يدلُّ على أن إخراجهما من النعيم الذي كانا فيه كان بسبب أكلهما من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها. قال الحقُّ سبحانه: ﴿فأكلا منها فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربَّه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ ... إلى أن قال سبحانه: ﴿قلنا اهبطا منها جميعاً﴾ ، وهو ظاهر في سبب إخراجهما من الجنة أكلهما من الشجرة، وظهور سوأتيهما بعد ذلك جاء عقب أكلهما من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها. سادساً : جازف الدكتور – عفا الله عنه- فزعم أن آدم وحواء عليهما السلام لم تكن لهما سوأتان عند بدء الخلق! ولا أُطيل في الرد على هذا الزعم، ويكفي في الرد عليه قوله تعالى: ﴿ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم﴾. فهل شهدت يا دكتور خلق نفسك حتى تتحدَّث عن خلق أبينا آدم وأمنا حواء؟! تذكَّر: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾. سابعاً : جاء في مقال الدكتور عشقي قول غريب، نسبه لأشرف الخلق أنبياء الله ورسله عليه الصلاة والسلام! حيث زعم أنهم لم يعبدوا الله تعالى لأجل الحور العين، ولا للجنة ونعيمها، ولا خوفاً من النار وشررها، بل عبدوه حباً لذاته! وهذه العبارة التي أشار إليها الكاتب أسوأ ما في المقال، فهي مقولة الصوفية المبتدعة في عبادة الله لذاته! وهي مخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة؛ إذ أن عقيدتهم في هذا الباب عبادة الله بالحب والخوف والرجاء.. والعجيب أن الدكتور استدلَّ على هذا المقولة بقول نبي الله عيسى عليه السلام – ولم نعرف صحته وثبوته عنه – ولعله مما حرَّفه النصارى من الأناجيل: (قوم عبدوا الله خوفاً من ناره؛ وتلك عبادة العبيد! وقوم عبدوا الله طمعاً في جنته؛ وتلك عبادة التجار! وقوم عبدوا الله حباً في ذاته؛ وتلك عبادة الأحرار!). فهو – كما ترى – لم يستشهد على ما ذهب إليه بآية محكمة، ولا بحديث مرفوع، ولا أثر مسند، بل هكذا يرسل الكلام على عواهنه! جدير بالتنويه هاهنا أن الرافضة يروون نفس المقولة التي ساقها الكاتب ويعزونها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكذلك الصوفية يرددون هذه المقولة وينسبونها لرابعة العدوية وغيرها. ومن المغالطة الواضحة أن الدكتور زعم أن الأنبياء عليهم السلام عبدوا الله تعالى بهذه الطريقة (الحب لذات الله تعالى، لا رغبة في ثوابه، ولا خوفاً وخشية من عقابه!). زاعماً بذلك أنهم بهذه الطريقة أكثر فهماً، وأعمق ادراكاً في التعامل مع الله سبحانه!! وأقول : أخطأت يا دكتور أنور – نوَّر الله بصيرتك بالعلم النافع – في هذا الزعم الذي تخيلته، وأبعدت النجعة، وقلت على الله قولاً بلا علم! إذ خالفت نصَّ الآيات المحكمات، وما ثبت عن خير البريات! واسمع قول الحقِّ سبحانه بعد أن ذَكَرَ جملة من الأنبياء الصالحين، والرسل الكرام، في سورة سمَّاها باسمهم: ﴿إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين﴾. وقال سبحانه: ﴿أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً﴾. وهذا الذي ذكره الدكتور، هو ما يدَّعيه جهلة الصوفية الزاعمون أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، وإنما حباً لذاته! ألا يعلم الدكتور أن من لوازم هذا الكلام تنقُّص الرسل عليهم السلام، وتنقُّص الصالحين من أتباع الرسل؛ إذ أن طريقتهم جميعاً في العبادة – كما سبق - : يرجون رحمته ويخافون عقابه؟!!. ألا يعلم أنه نشر مثل هذه المقالات الباطلة يتضمن احتقار ثواب الله تبارك وتعالى، والاستهتار بعقوبته؟! ألا يعلم أنه بنقل هذا الكلام يخالف موجب الفطرة التي فطر الناس عليها؟! لأن الله تعالى فطر العباد على محبة ما يُلائمهم، وكراهة ما يضرهم، مع إخبار الله تعالى عن عباده أنهم يتضرعون إليه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم، وأن يؤتيهم ما وعدهم على ألسنة رسله عليهم السلام. كما قال الحق سبحانه: ﴿والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم﴾. وقال سبحانه: ﴿ربنا وءآتنا ما وعدتنا على رسلك﴾. وأنا أسأل الدكتور الفاضل في هذا المقام: ألا تستعيذ يا دكتور عشقي في كل صلاة تصليها من عذاب جهنم؟! الجواب بلا شك: نعم. أليس هذا الصنيع منك خوفاً من النار؟! ألم يعلِّمنا إياه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؟! روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ من أربع: يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ... إلخ الحديث» 00 فلماذا تناقض نفسك يا دكتور بمثل هذا الادِّعاء العريض، وتُقدِّم بين يدي رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وتزعم أنهم ما عبدوا الله إلا لذاته! تذكر قول الله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾. ولهذا كان بعض السلف يقول: « من عبد الله بالحبِّ وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري – يعني من الخوارج -، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن ». أسأل الله تعالى أن يقينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يُعيذنا من مضلات الفتن، وأن يرينا الحقَّ حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضلُّ،،، والحمد لله رب العالمين.