خلال الأيام الأولى للثورة الإيرانية كانت طهران وبقية المدن الرئيسية تعاني من شح كبير في وقود المركبات نتيجة اضراب عمال النفط الطويل الذي شل البلاد، وفي الوقت الذي كانت إيران قد طلبت من بعض الدول النفطية كميات من الوقود لإنقاذ الموقف وفرت السعودية –من بين بعض الدول- دفعات وقود لطهران لأكثر من أربعة أشهر، وبُعيد أيام قليلة من إعلان الإمام الخميني ميلاد الجمهورية الإسلامية كان الملك خالد –رحمه الله- أول زعيم عربي يبعث برسالة تهنئة لمرشد الجمهورية، وكبادرة إشادة بحسن نوايا السعودية تجاه إيران أفتى الإمام الخميني بوجوب اتباع الإرشادات السعودية خلال حج عام 1979، بل وكلف الشيخ الرئيس هاشمي رفسنجاني بمهمة رئاسة وفد الحج وتبليغ المسؤولين السعوديين التزام الجمهورية الجديدة العلاقات الطيبة مع السعودية. إذا، ما الذي ذهب خطأ في العلاقات السعودية/الإيرانية؟ حقيقة، كان من المؤسف الاستماع إلى حديث المرشد آية الله علي خامنئي، والذي دعا بشكل صريح إلى تحويل موسم الحج إلى مناسبة سياسية تعلن فيها المظاهرات والاعتصامات في الأماكن المقدسة ضد ما سماه "قوى الاستكبار العالمي"، وكان من المستغرب –أيضاً- أن يتهم المرشد السعودية بإساءة معاملة الحجاج الإيرانيين، مع أن مسؤولا كبيرا بالهلال الأحمر الإيراني وهو محمد طاغي كان قد نوه -9 أكتوبر الماضي- بالاستعدادات السعودية في تأمين الوقاية الصحية للحجاج الإيرانيين لموسم الحج القادم. أما الرئيس محمود أحمدي نجاد فقد ذهب بعيدا إلى حد تحميل السعودية المسؤولية عما أسماه تفويت وظائف الحج –السياسية حسب رأيه-، بل وبلغة غير دبلوماسية وجه تهديدا مباشرا إلى الحكومة السعودية بأن الحجاج الإيرانيين سيستغلون المناسبة، وأن إيران ستتخذ الإجراءات المناسبة في حال لم تغير السعودية من مواقفها الرافضة لتسييس الحج. هل المسألة إساءة معالمة –أو تمييز- ضد الحجيج الإيراني؟ لو كان هذا صحيحا فلماذا أحجمت إيران طوال السنوات الماضية عن إثارة هذه القضية، ولماذا اختارت هذا التوقيت بالذات لتوجيه الاتهامات إلى السعودية في الوقت الذي تفاوض فيه من تسميهم "قوى الاستكبار العالمي" حول ملفها النووي. إذا كانت القضية –فعلا- تصعيداً خطابياً أو تظاهرات مناهظة للشيطان الأكبر "أمريكا"، أو ضد الدول الغربية كما تدعي إيران، فلماذا إذا التقى المسؤولين الإيرانيين بنظرائهم الأمريكيين أكثر من خمس مرات خلال الستة عشر شهرا الماضية! لا شك أن تصريحات المرشد الأعلى والرئيس نجاد هي نكسة حقيقة للعلاقات السعودية/الإيرانية، وتبديد لكل الجهود التي بذلت للتقارب بين البلدين خلال السنوات ال 12 الماضية، بل هي في حقيقتها نقض للتعهدات الإيرانية التي وقعت مع السعودية في 1998 و2001. لقد كانت مسألة الامتناع عن تسييس الحج واحدة من أبرز التعهدات الإيرانية التي قدمها الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني إلى العاهل السعودي الملك عبدالله على هامش اجتماعات منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1997. ولهذا فإن عودة القادة الإيرانيين إلى التهديد باستخدام الحج كورقة سياسية يكشف عن تراجع كبير في سياسة إيران تجاه العالم الإسلامي، وعن وعودها بالانفتاح على جيرانها العرب نهاية التسعينات. من الواضح أن البعض في طهران يعتقد أن تصدير مشاكل الداخل هي الحل تجاه صرف الأنظار عن مفاوضاتها –والتنازلات المحتملة- مع اللجنة السداسية في فيينا، وفي الوقت الذي تمنع طهران فيه المظاهرات، ويجرم المرشد بنفسه تشكيك قطاع كبير من الشعب في نتائج الانتخابات –المثيرة للجدل- فإنه يطالب أن تتحول المناسبات الدينية السلمية في السعودية إلى ساحة مواجهة يمارس من خلالها نشطاء الباسيج الدعاية السياسية. القادة الإيرانيون لا يدركون – للأسف - أنهم بمثل هذه التهديدات فإنهم لا يقلقون الأمن السعودي، بل يستفزون مشاعر الملايين من الأكثرية السنية حول العالم، والتي ترفض تسيس المناسك. ولعل القادة الإيرانيين أن يتذكروا بأن السعودية، وطوال فترة الحرب العراقية/الإيرانية لم تقطع علاقاتها بطهران بالرغم من التهديدات التي كان القادة الإيرانيون يطلقونها تجاه دول الخليج، وبحسب أرقام وزارة الحج السعودية فإن حصة إيران في الحج كانت وما تزال تفوق الدول المماثلة لها، والكل يتذكر كيف أحالت عناصر إيرانية مخربة حج 1987 إلى مواجهة دامية سقط خلالها الكثير من الأبرياء من السعودية ومن إيران ومن دول إسلامية أخرى، وقاد ذلك إلى هياج إيراني غير مبرر أحرقت فيه السفارة السعودية بطهران، وأدت تلك الممارسات الإيرانية إلى قطع العلاقات في 1988، وبالرغم من كل ذلك رفعت السعودية حصة إيران إلى 150 ألف حاج في حج عام 1991 مقارنة ب 45 ألف وهي حصة إيران في 1988، بل واستضافت على نفقتها أقارب الحجاج الإيرانيين الذين قضوا في مواجهات الحرم كبادرة حسن نية لتصحيح العلاقات بين الطرفين. ليست هناك مشكلة مع الأكثرية الإيرانية، ولكن الخلاف هو مع مجموعة من المحافظين الذين يصرون على إقحام السعودية –ولاسيما موسم الحج- في مناوراتهم السياسية، لقد كان الجميع يأمل في أن تفضي وعود الإصلاح التي قدمتها إيران نهاية التسعينات إلى تخلي طهران عن تصدير الثورة، ولكن للأسف ما يزال البعض في طهران يعتقد أن الحل بإزاء أكثر من مئة معتقل (إصلاحي)، ومن الموقف الأخلاقي المتراجع للبلد هو في تحويل موسم الحج إلى تظاهرة سياسية. لقد كتب رايان كروكر –السفير الأمريكي السابق في أفغانستان والعراق- كيف أن إيران لها تاريخ طويل من المفاوضات السرية مع الولاياتالمتحدة (14 سبتمبر، نيوزويك)، وكيف كان نظراؤه الإيرانيين هلال مفاوضات جنيف التي سبقت الإعداد لحرب أفغانستان يستمتعون بطلب وجبات البرجر ومشاهد كرة القدم الأمريكية معه في الفندق، وكيف كانوا يتذكرون بإعجاب سنواتهم الدراسية في أمريكا والغرب. لقد حان الوقت أن نكون صرحاء مع أصدقائنا الإيرانيين، لعبة الحج باتت قديمة وممجوجة، أنتم مستاؤون لأن بعض عناصر النظام باتت تهرب وتلجأ إلى أمريكا أو الغرب. محاولات الوزير منوشهر متقي لاتهام السعودية بالتورط في اختفاء شهرام أميري والذي اختفى في يونيو الماضي بعد مغادرته للسعودية من رحلة عمرة، هو –وبحسب روايات إيرانية- قد هرب من إيران لأنه يحمل معلومات حساسة تتعلق بملف إيران النووي. الإيرانيون قبل غيرهم يدركون أن أميري ومن قبله ممن سلموا أنفسهم للمخابرات الأمريكية منذ 2002 لا علاقة لهم بالسعودية، وإلا لماذا زار متقي واشنطن والتقى بشكل سري مسؤولين أمريكيين تحت مزاعم افتتاح مكتب المصالح الإيرانية الجديد. السعودية تدرك جيدا أبعاد التصعيد الإيراني، وهي تعرف أن الذين كانوا نشطاء في تصحيح العلاقة ما بين الرياض/طهران بعضهم محاصر في بيته اليوم أو في قفص الاتهام هم وأتباعهم في محاكم الثورة. إذا كان للعلاقات السعودية/الإيرانية أن تتجاوز هذا المنزلق الخطر فإن على القادة الإيرانيين أن لا يقحموا السعودية في صراعاتهم الداخلية، وأن يواجهوا خياراتهم بشجاعة. فإذا كانوا يريدون الوصول إلى توافق مع أمريكا والغرب فليقولوا ذلك لشعبهم مباشرة، ولا حاجة إذا إلى إيقاظ الحساسيات الطائفية بين شعوب المنطقة. كل لديه حجم من التحديات الداخلية كبير، فلماذا يلجأ البعض إلى تصدير مشكلاته! وأخيرا، لو جاز لنا أن نوجه رسالة إلى المرشد لقلنا: دعوا طهران تتنفس، واتركوا الحجاج يمضون بسكينة في مناسكهم، إذ لا سياسة في الحج.