مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية المجتمع السعودي كله في حالة نشاط وحراك فعال، يشد نظر المراقبين الخارجيين والداخليين، وموضوع المرأة جزء من هذا الحراك وهذا التفاعل «الطبيعي» فيه. هذه واقعة «خام» لا علاقة لها بتقويمنا لها، سواء كنا معجبين أو لا بهذا الحراك والتطورات. هناك أجيال من الفتيات السعوديات اللواتي تعلمن منذ انطلقت مسيرة التعليم النظامي بعدما وجه الملك سعود بالسماح بتعليم البنات سنة 1960. قرار لاقى حينها معارضة من قوى معينة، لكن سارت المسيرة، وانخرطت الفتاة السعودية في غمار التعليم النظامي، ثم ابتُعث بعض هؤلاء الفتيات للتعليم الخارجي، وأصبحت المرأة طبيبة ومصرفية وسيدة أعمال ومهندسة. في كل محطة من محطات «التطور» الطبيعي للمرأة السعودية كانت هناك أصوات معارضة متوجسة، وتكرر ذات الحجج ونفس الهواجس، ولكن غالبا تمضي عربة المرأة مزيلة هذه العقبات، وتضمحل الهواجس مع الوقت، أو تنزوي في ركن قصي، حتى تأتي محطة جديدة. الآن، وفي ظل التحولات الكبرى التي ألمت بالمجتمع السعودي الضخم منذ ثورة الإنترنت والفضائيات، وفي ظل نسبة كاسحة للشباب والشابات من مجمل السكان السعوديين وفي ظل عجز الفضاء العام عن استيعاب المرأة السعودية في أقنية العمل الحكومي والخاص، أو لنقل «محدودية» هذا الاستيعاب، بسبب ذات الهواجس القديمة، مضافا إليها مشكلات تتعلق بهيكل سوق العمل بشكل عام، وهو أمر تضرر منه الشاب والشابة على حد سواء، في ظل كل هذه المعطيات، أصبحنا أمام «قضية» حقيقية للمرأة، قضية مستقلة وشاخصة تتحدث عنها الأرقام والوقائع. لا تستطيع أن تنفي وجود نحو 50 في المائة من مجمل سكان السعودية هم من النساء، فهن يشكلن 8.2 مليون من أصل 16.5 مليون هم المواطنون السعوديون من مجمل السكان القاطنين في السعودية البالغ عددهم 22.7 مليون. ومع ذلك، تقدر نسبة النساء العاملات ب 10.25 في المائة من إجمالي القوى العاملة. حسب تقرير برنامج الأممالمتحدة للتنمية حول المرأة وأهداف التنمية في الألفية الثالثة. لا تستطيع أن تنفي حاجة خريجات التعليم العالي والمؤهلات إلى العمل وخلق مصدر دخل، إضافة إلى تحقيق الإشباع المعنوي للذات، إذ ما فائدة التعب وسهر الليالي في المذاكرة والذهاب إلى الجامعة والعودة منها ومصاريف الأسرة على ابنتها، إذا كانت النهاية المكوث في البيت أو التقاتل على فتات الوظائف المتاحة للمرأة، لماذا نعلمهن إذن؟ هذا سؤال حقيقي لا علاقة له بمعمعة كل الجدل الدائر، هناك أزمة حقيقية يعرفها أهل القطاع الخاص ومن يدرس واقع احتياجات سوق العمل ومسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد. المجتمع السعودي هو في نهاية الأمر مجتمع بشري تسري عليه قوانين وسنة التطور الطبيعي للمجتمعات، لذلك كان من الطبيعي أن نشهد منذ بضع سنوات عودة المرأة بقوة إلى متن المجتمع على خلاف بعض من يريد تخليدها في الهامش، نقاشا وحضورا. في الفترة الأخيرة احتفى الإعلام المحلي ببروز نساء سعوديات في مجالات البحث العلمي وتفوقهن في اختصاصاتهن وتكريم جامعاتهن وجهات عملهن في الغرب لهن، مثل الدكتورة غادة المطيري والدكتورة حياة سندي. وتصدرت المرأة السعودية غلاف مجلة التايم الأميركية، أهم غلاف في سوق الإعلام، وخصصت المجلة الشهيرة موضوعها الرئيسي عن المرأة السعودية. المرأة السعودية تظلم ظلما كبيرا إذا اعتبر البعض أن قضيتها تتم بتأثير الخارج الأجنبي عن ثقافة وهموم البلد الداخلية. هذا ليس صحيحا. مسيرة المرأة وتحولاتها في المجتمع قديمة ومتجذرة منذ أشرقت شمس الدولة الحديثة على يد الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله. في السعودية بدأت قضية المرأة مبكرة، يكفي أن نعلم أن رجلا مثل الأديب أحمد السباعي كتب مقالا بعنوان «الأدب النسوي في الحجاز» في جريدة صوت الحجاز في 21 مايو 1934 عن أديبة آثرت إخفاء اسمها وهي تحمل الكثير من العلم والثقافة، ويقول على لسانها إن هذه السيدة المثقفة سألت نفسها بعدما نهلت من الكتب وقفز وعيها فتقول: «لا أدري ماذا عن بني وبنات جنسي، أيسمونني شاذة ويصمونني بالخروج ما دمت أحتفظ برأي الحجاب على أن تتعلم المرأة». وفي نفس العدد يكتب السباعي ردا على رئيس تحرير صوت الحجاز محمد علي رضا الذي كان ضد فتح مدارس للبنات بدعوى أن بيت المرأة أصون لها، وحجة السباعي أن تعليم المرأة ليس مدعاة لفسادها، ويخرج السباعي كتابه (وحي الصحراء) سنة 1936 حاويا مجموعة مقالات له، ومنها مقال بعنوان: «حاجتنا إلى تعليم البنات». وقبله يكتب محمد راسم مقالة في صوت الحجاز 1933، مؤيدا حق المرأة في التعلم ومشجعا عليه خاتما بقوله: «أين هي حياة العلم من حياة الجهل». وفي جريدة أخبار الظهران التي كانت تصدر من شرق السعودية نجد الأديب السعودي عبد الكريم الجهيمان يكتب مقالا سنة 1955 بعنوان: نصفنا الآخر، نشره وقتها باسم مستعار، هو البصير، ثم عاد بعد سنوات ونشره باسمه الصريح، ومما جاء فيه: «لا نزال نرى كثيرا من مواطنينا يتهيبون من تعليم بناتهم ويذهبون في تهيبهم هذا إلى حالات هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة ويتركون بناتهم أشبه ما يكنّ بالببغاء». ومثله كتب سعد البواردي في العدد السادس من مجلته مجلة الإشعاع التي صدرت 1956. وفي وسط السعودية كانت هناك أصوات قوية في معركة تعليم البنات، واللافت أن الأصوات الصادحة هذه بحق المرأة في التعليم كانت موقعة بأسماء بنات وسيدات، نشرنها في جريدة القصيم التي يحوي أرشيفها سجلا ناصعا لمعركة تعليم البنات في السعودية، هؤلاء الطالبات نشرن مقالهن في زاوية: حواء تتكلم، في العدد 21 سنة 1960 يؤيدن الملك سعود في سياسته حول تعليم البنات التي لاقت معارضة من قبل المحافظين ويلقبنه بملك الديمقراطية، وفي العدد 26 سنة 1960 يأتي في كلمة جريدة القصيم مقالة بعنوان تعليم البنت: «تحققت الفكرة التي طالما دعا إليها المفكرون وبحثها الباحثون وهي تعليم البنت، وتحطمت تلك الأوهام والمخاوف التي كانت تقف عقبة كأداء في سبيل تثقيف الأمة». ويرد مقال في جريدة القصيم في العدد 107 سنة 1962 للشاعرة والكاتبة سارة أبو حيمد بعنوان: لا تمنعوا العلم عن فتياتكم. معركة تعليم البنات التي خاضها الملك سعود بداية، ثم الملك فيصل بكل قوة وتصميم، كانت معركة مصيرية، والمفارقة أن كثيرا ممن كانوا أبرز المعارضين قد درّست بناتهم ودرسن في سلك التعليم لاحقا، وكان للمرأة السعودية ومعها شقيقها الرجل صوت رفيع في هذه المعركة (للتوسع أنصح بقراءة بحث محمد عبد الرزاق القشعمي في كتاب «حقول الأدبي الخامس». وكتاب «فتنة القول بتعليم البنات»، لعبد الله الوشمي). كانت قضية تعليم البنات قضية كبيرة في وقتها، وتسببت بحدوث جدل صاخب، لكن الدولة، صممت على المضي في هذا الطريق، وكان لدعم القيادة السياسية الأثر الفارق في كسب المرأة السعودية لقضيتها، وبتضافر جهود المخلصين من نساء ورجال البلد أثمرت السعودية فتيات يحملن نور العلم وهمة العمل. رجال مثل الملك سعود والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد، الذي كان هو نفسه محبا للتعليم، ونساء أمثال حرم الملك فيصل الأميرة عفت، رائدة التعليم النسوي. ما يجري الآن في عهد الملك عبد الله من «تطور» وتغيير، هو امتداد لذلك التطور السالف، هو تطور طبيعي تفرضه سنة الحياة، ولا يعارضه الإسلام كما يريد البعض أن يوهمنا. التطور والتغيير ليس شيئا مخيفا ولا مرعبا بخلاف ما تقوله حملات النواح. وكم كان لافتا في هذا السياق تصريح رئيس المجلس الأعلى للقضاء في السعودية الشيخ صالح بن حميد مؤخرا، وهو يجيب على سؤال حول خطة تطوير مرفق القضاء، مشيرا إلى أن التطوير لا يعني نقد السابق إنما هو تطلع إلى الأفضل وأن المتغيرات تستدعي تغيير القديم لمواكبة الوقت. نعم المتغيرات تستدعي المواكبة، ومن لا يواكب فهو يجني على نفسه وعلى مجتمعه، ولا ثقافة تقوم أو تستمر دون اجتماع بشري حاضن، ولا يمكن لاجتماع بشري أن يشكل قوة إلا إذا كان مقتدرا، ومن لا يملك شجاعة التحول والتطوير محكوم عليه بالفناء... هذه سُنة التاريخ. من أجل ذلك كله فإن المجتمع السعودي إنما يضع نفسه في الموقع الصحيح بين ضرورة التغيير والمواكبة مع بقاء الهوية الحضارية الواثقة.