تواصل صحيفة الجزيرة اليوم السبت عرض نصوص أوراق العمل والمحاضرات والندوات المشاركة في البرنامج الثقافي لمعرض سيئول الدولي للكتاب 2012م الذي اختتم فعالياته الأسبوع الماضي، حيث شاركت المملكة في المعرض كضيف شرف، وقد رغبت صحيفة «الجزيرة» إتاحة الفرصة أمام القراء والمهتمين للاستفادة مما احتوته هذه المشاركات المتميزة من بحوث ودراسات ومعلومات قيمة رغبة في الإفادة منها ثقافياً وعلمياً. ويسرنا أن ننشر في هذا العدد مشاركة د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم العوين بعنوان (فواصل مهمة في مسيرة تطور النثر الأدبي السعودي) وفي ما يلي نص المحاضرة: تتناول هذه الورقة أربعة محاور هي: 1 - بواكير الوعي الكتابي الأول في الدعوة إلى النهضة - وتتمثل في كتابات أدبية متنوعة الأغراض وهاجسها جميعا محاربة التقاليد البليدة، والتعالي على المعوقات، والشكوى من التخلف والحرص على احتذاء وتقليد النهضة الأدبية في مصر، والمبدعين العرب في مطلع القرن الميلادي المنصرم 1900 م وما بعده؛ مثل : جبران خليل جبران، ومصطفى المنفلوطي ومحمدحسين هيكل ومي زيادة وعباس العقاد ومصطفى الرافعي وطه حسين وغيرهم. - ومن تلك الكتب الأولى المؤسسة للنهضة الأدبية السعودية: - أدب الحجاز، جمع محمد سرور الصبان، الصادر عام 1344ه / 1926م - خواطر مصرحة، محمد حسن عواد، الصادر عام 1345ه / 1927م - نفثات من أقلام الشباب الحجازي، جمع هاشم يوسف الزواوي وعلي حسن فدعق وعبدالسلام طاهر الساسي 1355ه / 1935م - وحي الصحراء، جمع محمد سعيد عبدالمقصود خوجة وعبدالله عمر بلخير 1355ه / 1935م 2 - قضايا المقالة الأدبية وأبرز كاتبيها - مثل: تعليم المر أة، توطين البادية، تشجيع المشروعات النافعة، اقتراح المشاريع الخيرية، مشروع القرش، محاربة التقاليد البالية. ومن هؤلاء الكتاب: حمزة شحاته، عزيز ضياء، محمد سعيد عبدالمقصود، محمدحسن عواد، محمد حسن فقي، أحمد السباعي، عبدالكريم بن جهيمان، حمد الجاسر، عبدالله بن خميس، وغيرهم. 3 - القصة والرواية.. - وأتناول في هذا المحور بدايات وتطور الفن القصصي، ويمكن تقسيمها إلى أربع مراحل: - الريادة «المرحلة التقليدية» وأول روايةسعودية هي «التو أمان» لعبدالقدوس الأنصاري «1349ه / 1929م ثم رواية «الانتقام الطبعي ط لمحمد نور الجوهري 1355ه / 1935م - التعليمية ، وتتمثل فيصدور هذه الروايات: فكرة لأحمد السباعي 1367ه / 1948م والبعث لمحمد علي مغربي في العام نفسه، وغادة أم القرى لأحمد رضا حوحو 1368ه / 1949م ورواية أمي لعبدالله عبدالجبار 1374ه / 1954. - الفنية، وتبد أ بصدور أول رواية فنية حديثة « ثمن التضحية « لحامد دمنهوري 1378ه / 1958م ثمسلسلة روايات عديدة ممتدة إلى عام 1414ه عام صدور شقة الحرية لغازي القصيبي. - ونذكر على سبيل المثال لا الحصر من الرويات الفنية الجيدة: ومرت الأيام للدمنهوري، سفينة الضياع، وعذراء المنفى لإبراهيم الناصر، غداس يكون الخميس، وعبث لهدى الرشيد، غدا أنسى لأملشطا، لاظل تحت الجبل لف ؤاد عنقاوي، لا لم يعد حلما لفؤاد صادق مفتي،سقيفة الصفا لحمزة بوقري، وغيرها. - الحديثة، وتبد أ بروايةشقة الحرية لغازي القصيبي 1414ه / 1994 م، وثلاثية أطياف الأزقة المهجورة (العدامة - الشميسي - الكراديب) لتركي الحمد 1416ه / 1996م والغيمة الرصاصية لعلي الدميني 1418ه/ 1998م. - التجريب، وتبد أ بصدور رواية بنات الرياض لرجاء الصانع 1423ه / 2002 م، وهي سلسلة طويلة ممتدة إ?لى الآنصدر فيها مايقرب من مائتي رواية، وتتعدد في مناحيها الفنية وطرائقها ومضامينها، ولكن يغلب عليها طابع التمرد والتماس مع التابو، والدخول إلى المناطق المحرمة دينيا وسياسيا. ومنها مثلا: ملامح لزينب حفني، والقارورة ليوسف المحيميد، والآخرون لصبا الحرز، والقران المقدس لصبا الحرز، وعيون الثعالب ليلى الأحيدب، وشارع العطايف لعبدالله بن بخيت وغيرهم. - ويدخل في هذا السياق أيضا ما يمكن تسميته بتأريخ ومصاولة الأيدولوجيا وكشف التطرف بعد 11سبتمبر، ومن ذلك: الإرهابي 20 لعبدالله ثابت، جانجي طاهر الزهراني، ريح الجنة تركي الحمد، الحمام لايطير في بريدة ليوسف المحيميد، وعرق بلدي لمحمد المزيني، وكائنات من طرب لأمل الفاران، وهند والعسكر لبدرية البشر، وغيرها. 4 - فن السيرة.. - وعني بها الكتابة السيرية التي تقف عند تطور الشخصية وذكرياتها ور ؤها في الحياة، ونجدها في الأدب السعودي على ثلاثة أنماط؛ هي: - السيرة الذاتية المجردة التي لاتكتب ب أسلوب أ?دبي؛ بل تخلو من اللمحات والمزينات والطراوة ومحسنات الأسلوب، وتكاد تكون توثيقا أ?و ما يشبهه، ومن هذاسير السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال، مثل: مقاتل من الصحراء لخالد بنسلطان، مالم تقله الوظيفة لمنصو الخريجي، وقطرات من سحائب الذكرى لعبدالرحمن السدحان، وغيرها. - السيرة الأدبية، وهي تلك التي يكتبها الأدباء بشروط كتابة النص الأدبي الملتزم بالمحسنات وحسن العبارة وجمال الضياغة، وهي غير قليلة في نتاجنا الأدبي الحديث، مثل: سوانح الذكريات لحمد الجاسر، وحياتي مع الجوع والحب والحرب لعزيزضياء، وفيلسوف وترجمة حياة امحمد حسن فقي، وذكريات طفل وديع لعبدالعزيز الربيع، وتلك الأيام لعبدالفتاح أبي مدين، ومذكرات وذكريات من حياتي لعبدالكريم الجهيمان، وغيرها. - السيرة الروائية، وهي تلك الأعمال الأدبية التي تقدم السيرة في معمار فني روائي، وتتبين فيها الملامح السيرية أحيانا أو تختفي فيضبابية وخيال البناء الروائي، ويدخل في هذا الفن المتناص كثير من الأعمال:شقة الحرية لغزي القصيبي، وثلاثية أطياف الأزقة المهجورة لتركي الحمد، وورقص لمعجب الزهراني، والحزام لأحمد أبي دهمان، وتجربة فتى متطرف لمحمد العوين. - بقي أن أشير إلى أن الوقت لايسع لتقديم فنضخم وكبير في أدبنا السعودي، وهو فن أدب الرحلة، وقد كتب أدبا ؤنا عشرات الأعمال الرحلية المهمة والمميزة، مثل: محمد عمر توفيق، ومحمد بن ناصر العيودي، وعبدالكريم الجهيمان، وحمد الجاسر، وعبدالعزيز الرفاعي، وعبدالله بن خميس، وفهد العريفي، وغيرهم. - ملحوظة: ستتضمن الورقة ايضا إشارة إلى كثير من الأوليات في أدبنا بالتواريخ والأسماء والصور. كما ستقدم الورقة إيضاحا بالشرائح المصورة يمكن عرضها بالبرجتكر لأغلفة الإصارات المميزة في الكتابة المقالية والنقدية والقصصية والسيرية. مقدمة: أريد أن أستغل هذه الفرصة الرائعة ونحن في ضيافة الشعب الكوري الصديق أن أقدم إضاءة تاريخية عن علامات مهمة أو فواصل مؤثرة في مسيرة الإبداع النثري السعودي. ولكم أن تتساءلوا: لم النثر فقط ؟ ولم لم يكن للشعر نصيب في هذه الورقة الموجزة ؟! وأجيب: لأن الشعر حظي بدراسات كثيرة، وبعضها مترجم إلى لغات أ?خرى، على حين بقي النثر الأدبي رهين دراسات أكاديمية متخصصة ول ايتم تداولها إلا في نطاق ضيق، وبخاصة تلك الدراسات المعنية بالكتابات النهضوية الأولى وما أبدعته الأجيال الرائدة من مقالات أدبية متميزة، وما قدمه القاصون والروائيون في بداية النهضة ووسطها. ولعلي أجد حوافز أخرى دعتني إلى قصر الحديث على النثر دون الشعر؛ وهي أن الشعر مفضل على النثر في تراثنا العربي القديم، ولم يستطع النثر نيل بعض الحظوة إلا في مراحل مت أخرة مع بدايات الطباعة ودخول العرب عالم الصحافة نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، و أن النثر جمع من الأفكار الإيجابية ومن دعوات اليقظة ومن التعبير عن الأشواق الوطنية نحو اطراح عهود الظلام والتوق إلى الحرية وإلى النور وإلى التحرر من هيمنة التقاليد أكثر مما تضمنته نفار من القصائد الشعرية المتناثرة هنا وهناك لعدد من المتنورين الذين يجمعون - في أحايين كثيرة - بين كتابة الشعر والنثر؛ كمحمد حسن عواد، وحمزة شحاتة، وأحمد العربي، وعبد الوهاب آشي، وإبراهيم هاشم فيلالي، وغيرهم. أولاً: الوعي الثقافي والكتابي المبكر: اجتهدت ثلة متميزة متوثبة منشبان الحجاز في البحث لنفسها عن طريق إلى الخروج من حصار الاستبداد والتخلف الذي كان يعيشه إقليم الحجاز في عهد الشريف الحسين بن علي أواخر الثلاثينيات ومطلع العشر الرابعة من القرن الرابع عشر الهجري الماضي؛ وأشعل وقدة هذا الشعور الوطني ما كانوا يقر ؤونه من أدب جديد يكتبه المهجريون كجبران خليل جبران، والمصريون كمحمد عبده ورشيد رضا وقاسم أمين ومصطفي الرافعي ومصطفى المنفلوطي ومحمد حسين هيكل وطه حسين وزكي مبارك ومحمد حسن الزيات وعلي عبد الرازق وغيرهم. ف أصدر محمدسرور الصبان كتاب « أدب الحجاز « أو:صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازيةشعرا ونثرا. عام 1344ه وجمع في مائة وستينصفحة مقطوعاتشعرية ونثرية لعدد من ناشئة الدب في الحجاز ك أول عمل أدبي جماعي يصدر قبل منتصف القرن الهجري الماضي ويعبر عن آمال الشبيبة الحجازية؛ ولأن هذا الإصدار علىصغر حجمه وتواضع نصوصه يعد باكورة الدب الحديث؛ فإن من المفيد أن نتعرف على الغاية التي من أجلها اندفع الصبان إلى جمع هذه المقطوعات المتفاوتة الأغراض والغايات والأساليب، يقول « لو لم يكن من وراء عملي هذا إلا إعلام للناس في هذا البلد وفي خارجه أن هناشبيبة تحب العلم وتنظر بغيرة نزيهة وحسرة وحزن عميق إلى ما يتمتع بهشبان بقية البلاد العربية من البسطة في العلم والحصول على ما تتعطش إليه نفوسهم من مناهله العذبة، وهم محرومون مطاردون مضروب على أيديهم محول بينهم وبين طلبتهم وغايتهم بسد منيع لا تستطيع حيلتهم أن تصل بهم إلى ما يريدون وما يؤملون، وإلا الإبلاغ ب أن هناشبيبة تريد ولا يمنعها من إرادتها شيء أن تأخذ حقها وحظها ومكانتها في الوجود ككل أمة تشعر بكرامتها وتشعر بقوميتها وتحتفظ بمقدراتها ومفاخرها وإرثها القومي بين الأمم، وإلا أن أدل بصفة عملية على وجود حياة - (ولو كانت كحياة الطفل في أول استهلاله وشعوره بالحياة) في هذا البلد وفي هذا بشرى وغبطة للمخلصين. لكفاني تشجيعا على العمل والإقدام عليه». ثم أهدى هذا الكتيب الصغير إلىشبان الحجاز وناشئته الأدبية. في 20 من رمضان 1344ه. ونجد الأسماء التي ضمها أدب الحجاز تتكرر في الغالب في إصدارات أخرى لاحقة سنعرض لها بشي من التعريف والبسط؛ مثل: الآشي، والعواد، ومحمد عمر عرب، ومحمد سعيد العامودي، وعبد الوهاب النشار، ومحمد جميل حسن، ومحمد علي رضا، وغيرهم. الحق أن الصبان في كل ما كتبه من مقدمة للكتاب وما نشر من شعره ونثره أو تعريف بشخصيته في آخر «أدب الحجاز» كانسيد دعاة النهضة، وعلى ر أس من ت ألموا من انحطاط الحجاز في ذلك العهد قبل استعادة الملك عبد العزيز - رحمه الله - إقليم الحجاز عام 1343ه. ونحن نعلم أن هذه النصوص كتبت قبل تأريخ الاستعادة بفترات زمنية متفاوتة ولم يجدوا صحافة تنشر مثل هذه الشكوى المرة المتضمنة في باطنها دعوة إلى الانتفاضة على الأوضاع السيئة آنذاك؛ إذ إن صحيفة «القبلة» التيصدرت في مكة بدءا من عام 1334ه واستمرت إلى عام 1343ه لم تكن تنشر إلا ما يوافق هوى الحسين؛ بل كان يشرف عليها بنفسه، ويكتب بعض افتتاحياتها بدون أن يذيلها باسمه الصريح. وبعد عام واحد أي في سنة 1345ه يصدر الأديب الشاب الثائر محمد حسن عواد كتابه الأول «خواطر مصرحة» كأول كتاب نثري بجهد منفرد على خلاف الكتاب السابق، ويدعو محمد سرورالصبان صديقه عبد الوهاب آشي إلى دعم العواد في إصداره هذا بكتابة مقدمة ضافية له، فلا يستطيع أن يعصي له أمرا، ويكتب مقدمته له ممجدا ومعجبا ومشاركا له في أفكاره الثائرة على الأدب التقليدي القديم بلاغة وشعرا ونثرا، وعلى تيار المحافظة « لعمر الحق: أعجبني الأديب كثيرا في جر أته الأدبية، فلقد مني الحجاز بل أبناؤه أحقابا طويلة بداء الخنوع والمسالمة والسكون على المضض حتى الموت. لقد شن العواد حملة شعواء قاسية على تيار المحافظة، ورأى أن التقليدين وراء كل حالات التخلف في المجتمع؛ فدعا إلى أن ينطلق الأدب ويتحرر الفكر من إسار هيمنة المحافظة الشديدة، وكانت مقالته الأولى في الكتاب تحت عنوان لا يحتاج إلى كثير من ت أمل لفهم مغزى مقالته الساخطة «مداعبة مع العلماء وهي خمسصفحات مزقتها الرقابة في حينها ونزعتها من الكتاب لمباشرتها الشديدة في الهجوم على طبقة غير قليلة من علماء الدين، ولا نستطيع نحن هنا الإتيان ولو ببعض نصوص منها. أما مقالته الثانية عن البلاغة العربية فعلى الرغم منسياطها اللاذعة إلا أننا قد نُعذر في هذه المرحلة الشفافة من هذا الزمن في إيراد بعض أسطر منها، حيث لا يرى البلاغة والإبداع يتدفقان من التراث الأدبي المتحجر فيسنوات الانحطاط كشعراء نظم المخمسات والمعارضات بين الشتاء والصيف والسيف والقلم مثلا؛ بينما يرى البلاغة العربية تتدفق من تلك الأدمغة المطربشة، والمبرنطة، والحاسرة، ذوات فكرة التجدد العصري والذكاء النجيب، وتضرب صفحا؛ بل تربأ بنفسها أن تتدفق من ؤوس غلاظ أفسدها ثقل العمائم وطول اللحى؛ كما يقول !. وهكذا يسير محمد حسن عواد في هذا الطريق الفكري المحفوف بمخاطر المواجهة مع تيار المحافظة، حالما في منتجعه الفسيح كما أسماه بوطن آخر مضئ ومشرق، تنشأ فيه الجامعات العلمية التطبيقية، وتخترقهسكك الحديد، وتمخر أجواءه الطائرات التي تقودها نساء، ويتحدث أهله بلغات عالمية، ويمتلكون تقنيات طبية وعلمية عالية، بحيث تجري العلميات الجراحية النادرة طبيباتسعوديات كما تخيل ذلك كله في الحجاز بعد 500 سنة ولكن أحلام العواد لم تكن كلها خيالية مجنحة، ولم تكن أيضا مستحيلة ففي أقل من خمس المدة الزمنية التي تخيلها تحققشئ كثير من تلك الأحلام العظيمة البعيدة عن الطوباوية، وما زالت الفرصة متاحة لتحقق كثير مما حلم به لأبناء وطنه، ربما أيضا في أقل من ربع الزمن الذي توقعه لتقدم شعب شبه جزيرة العرب؛ إذ لم تكن « المملكة العربية السعودية « قد توحدت بعد، ولم تكن الجزيرة تحمل هذا الاسم الذي لملم أجزاء الجزيرة تحت مظلة واحدة عام 1351ه بكفاح نادر من رجل عظيم هو الملك عبد العزيز رحمه الله. وكأن الشبان المتطلعين إلى مستقبل بهي لوطنهم قد أذهلتهم التغيرات السياسية الجديدة الطارئة؛ فقد انقضى وولى عهد بائس قديم بركوده، وأشرق عهد قادم جديد بوعوده، ف أخذهم الانتظار والت أمل ليروا ملامح توجه المرحلة الجديدة، ثم تبين لهم ترحيب الملك عبد العزيز بكل خطوة إيجابية فيسبيل التنوير والعلم والتحديث؛ فجدت عزائمهم إلى مزيد من التعبير الحر ومزيد من الحث على التعجيل بخطوات النهضة؛ فصدر في عام 1355ه كتاب «نفثات من أقلام الشباب الحجازي» وهي إضمامات نثرية وشعرية لعدد من ناشئة الأدب على نمط كتاب «أدب الحجاز» قام بجمعها: هاشم يوسف الزواوي وعلي حسن فدعق وعبد السلام طاهر الساسي، وكتب مقدمة هذه النفثات بتخوفشديد من زخم الكتابة وإقبال الناس على التعليم عراب النهضة محمدسرور الصبان. وهي لا تكاد تختلف عن الإصدار الجماعي السابق إلا في زيادة أعداد المشاركين، وك أن الصبان قد رأى إقبال الناس على التعليم وعلى الكتابة فخشي على البلاد من كثرة المتعلمين ومطالبهم ؛ بعد عشرسنوات أو تزيد قليلا من استعادة الملك عبد العزيز للحجاز، وصدور جريدة أم القرى عام 1343ه بديلا للقبلة التي توقفت مع أفول العهد السابق، وافتتاح المعهد العلمي السعودي بمكةالمكرمة عام 1346ه واستقدام نخبة من علماء الأزهر المصريين للتدريس فيه، وتخرج أول دفعة منه عام 1351ه وصدورصحيفة جديدة كان لها أ?بلغ الأثر في النهضة بما أحدثته من حراك أدبي وفكري؛ هيصحيفة «صوت الحجاز» التيصدرت في 25 من ذي الحجة عام 1351ه وافتتاح دار التوحيد بالطائف عام 1356ه. ويأتي الإصدار الرابع المهم «وحي الصحراء» من جمع: محمدسعيد عبد المقصود خوجة وعبدالله عمر بلخير عام 1355ه ربما تجاوبا مع الإرهاصات الأولى لبشائر النهضة في العهد الجديد وما كانت تحمله جريدة «صوت الحجاز « من نقاشات ومصاولات ومعارك كلامية بين المتطلعين إلى المعرفة والنابهين والمتنافسين على الصدارة في النشر، وما يناله حتى الكاتب الناشئ - آنذاك - من حظوة واهتمام في الأوساط الاجتماعية؛ لقلة الكتبة المتعلمين وندرة وسائل النشر !. لم يختلف «وحي الصحراء» عن أدب الحجاز والنفثات إلا بما جد من أسماء كتابية ناشئة، وما أحدثه وحرص عليه الجامعان من إضافات فنية بالغة في الإخراج والتعريف بالمشاركين مع نشرصورة مرفقة بالتعريف؛ فقد ازدان هذا الكتاب ولأول مرة بصور الكتاب والشعراء المشاركين، صور بطبيعة تلك المرحلة لم تكن ملونة؛ بل كانت بالأبيض والأسود، وتعد خطوة متقدمة وموثقة وت أريخية؛ إذ لا عهد للصحافة السعودية بالصورة إلا بصدور عدد 245 من جريدةصوت الحجاز في 25 من ذي الحجة 1355ه فقدصدر هذا العدد الخاص من الجريدة كإصدار استثنائي عن مشروع وطني خيري؛ هو مشروع القرش، وتحدث فيه الأمير فيصل بن عبد العزيز نائب الملك عبد العزيز على الحجاز، وتحدث فيه أيضا عدد من الأدباء. ونشرت الجريدة لأول مرة صورا في الصفحة الأولى للملك عبد العزيز ولولي العهد سعود وللأمير فيصل، ونشرت في الصفحات الداخليةصورا لعدد من الأدباء مثل عبد الوهاب آشي، ومحمد حسن فقي، ومحمد أمين عقيل، ومحمد سعيد العامودي، وأحمد سباعي، وعبد القدوس الأنصاري. لكن الإضافة الأهم والأكثر ت أثيرا في إضفاء قيمة أدبية ونقدية على هذا الكتاب تلك المقدمة الضافية المجاملة التي كتبها الأديب المصري الكبير رائد الرواية الدكتور محمد حسين هيكل، الذي رأى في هذه الإضمامة من النصوص المختارة لكوكبة من الأدباء السعوديين - لأدباء إقليم الحجاز كما كان الأمرسابقا قبل التوحيد - بشارة مبكرة ببزوغ عهد جديد، وبأن النبع الذي غاض ما ؤه عاد إلى فيضه كما كان.. فقوى الله عزائم هذه النهضة وأمدهم بروح من عنده ليبلغوا بها غاية رقيها ولتبلغ ببلاد العرب إلى المكانة التي يجب أن يتبوأها منزل الوحي في العالم». ثانياً: قضايا كتاب المقالة الأدبية كان كتاب المقالة الرواد المبشرين بالنهضة والداعين إلى الانطلاق من ربقة الجمود والتخلف، وسبقوا كل خطوات التحديث العملية بتهيئة الأذهان، وإثارة الحوار عبر المقالات المتوالية عن قضايا المجتمع التي كانت آنذاكشائكة جدا، مما مهد لاحقا بعد عقد أو عقدين البدء بخطوات عملية على صعيد التحديث الاجتماعي؛ كتغيير المناهج التعليمية للفتيان، واستحداث مدارس مهنية وتطبيقية إلى جانب المدارس الدينية واللغوية، وإدخال وسائل الاتصال الحديثة؛ كالبرقية واللاسلكي والإذاعة ثم التلفزيون، والدعوة إلى إنشاء مسرح إسلامي كما نعته أحمد سباعي رائد دعوته والمنافح عنه، مع أن هذا المطلب لم يتحقق بعد بالصورة التي يأملها المعنيون به؛ إلا أ?ن جزءا من الأداء المسرحي في الكليات وجمعية الثقافة والمدارس أصبح يقوم بأداء بعض الأدوار المسرحية، على أن الأداء الدرامي في الإذاعة والتلفزيون أغنى كل الغنى عن خشبة المسرح، ودخلت الدراما التلفزيونية دون ضجيج ولا مطالبات إلى كل بيت تقدم كل الأدوار الكوميدية والتراجيدية وغيرها، من خلال المسلسلات والتمثيليات، وبممثلين وممثلات سعوديين. عني الكتاب الرواد الذين كانوا المبشرين بالمستقبل والجاعلين من أنفسهم فداء أو أضحية لمواجهة التيار المحافظ بالدعوة إلى التغيير والانتقال بالمجتمع من حالة الركود والعزلة والخمول إلى الانخراط في إيقاع الحياة الحديثة؛ فكان أحمد سباعي من الداعين المبكرين إلى تعليم المر أة، وقد اختار أن يكتب باسم « متعلمة حجازية في جريدة صوت الحجاز عام 1353ه ليكون أبلغ في إقناع المعارضين تعليم المرأة؛ لأن هذه الدعوة حين تكون من امرأة فإنها - كما ذهب إلى ذلك الكاتب - أدعى إلى الاقتناع والقبول، ولذا دخل في مصاولة عنيفة مع من لا يرون ضرورة لذلك، ذاهبين إلى أن تعليمهاسيكون مدعاة إلى فسادها. لقد تبنى السباعي قضية تعليم المر أة، وأكثر من الكتابة باسمه الصريح حينا وباسم متعلمة حجازية أحيانا أ?خرى، ولإعجاب بعض القراء تقدم كثيرون إلى رئيس التحرير آنذاك محمد علي رضا طالبين يد هذه المتعلمة الجريئة، على الرغم من أن أبرز معارض للسباعي في دعوته إلى تعليم المرأة دون قيود ولاشروط كان رئيس التحرير نفسه، الذي كتب مقالات عدة منتقدا إطلاق الدعوة إلى تعليم المر أة دون قيود؛ لأن ذلكسيكون مدعاة إلى فسادها كما يقول. وإذا كان محمد علي رضا لا ي ؤ?يد تعليمها ويرى أنهاستجد الطريق ميسرا حين تتعلم قراءة الروايات الغرامية وكتابة رسائل الغزل لمن تحب؛ ف إن كثيرين من متنوري الحجاز عارضوا أفكار رئيس التحرير بقوة، وردوا عليه بمقالات متوالية مفندين آراءه وما تخيل أن تقع المر أة فيه من سلوك غير مرضي عنه بعد أن تتعلم، ومن هؤلاء محمد حسن عواد، وإبراهيم هاشم فلالي، ومحمدسعيد عبد المقصود خوجة، وآخرون رمزوا لأنفسهم إما بحروف أو ألقاب، كما فعل فتى الصفا (12) أو: ح وغيرهما. وقد عني كتاب المقالة بنقد الالتزام المطلق بالتقاليد واتباع الموروث من العادات دون الت أمل في ما يصلح وما يقف عقبة في طريق التقدم وبناء الحياة الحديثة، ويكاد أن يكون لكل كتاب المقالة ?إسهام في التنفير من المثول للعادة والخضوع للتقليد، أو نقد بعض العادات السيئة كنقدهم بعض الشبان الذين يقصونشعورهم من الجوانب ويطيلونها في مقدمة ر ؤوسهم، وكان يسمى ذلك بالتواليت كما فعل محمد حسن فقي الذي كان يكتب تحت توقيع «ابن جلا» ومحمد عبد الرحمن الصحاف ومحمد سعيد عبد المقصود عبد الحميد الخطيب وعبد الكريم الجهيمان وغيرهم. كما كان لكتاب المقالة إسهام جيد في الدعوة إلى العمل وتوحيد الزي والمشاريع النافعة كمشروع القرش وتشجيع الطيران وإصلاح الاقتصاد وتوطين البادية وغيرها من هموم المجتمع. ومن الطبعي أن تحتدم الر ؤى وأن تختلف وجهات النظر في قضايا النهضة، ومسائل الإبداع الأدبي؛ وك أن الأدباء والكتاب السعوديين يتأسون ب أعلام الأدب في محيطهم العربي، وبخاصة في مصر، حيث تدور هناك معارك حامية الوطيس بين أعلام الأدباء ومشاهيرهم، كالعقاد والرافعي وطه حسين وزكي مبارك وغيرهم، فلا حرج إذاً إن قلد شداة الأدب في الحجاز أولئك الأعلام واقتدوا بهم في افتعال معاركساخنة حامية الوطيس كما هي في مصر؛ فنرى - مثلا - محمد حسن عواد الثائر على التقاليد والأساليب القديمة تلميذ جبران خليل جبران والمتأسي بالعقاد يدخل عام 1352ه معركة عنيفة غير متكافئة في التهذيب والقسوة والسلاطة مع عبد القدوس الأنصاري حين نشر الأخير قصته «مرهم التناسي» على صفحات أم القرى؛ فكتب العواد مقالته الأولى فيصوت الحجاز ناقداً أسلوب القاص وإخفاقه في الوصول إلى المستوى الفني للقصة الجيدة التي يكتبها المبدعون العرب في مصر والشام في وقته، وملمحا إلى أنه كان له موقف نقديساخنسابق معه يحسن ألا ينساه قبلسنتين حين نشر الأنصاري قصته الأولى التي أسماها رواية، وهي «التوأمان» وها هو يعود من جديد مكررا تجربة كتابة فن لا يحسن كتابته كما يقول العواد. احتدمت المعركة، وتوالت الردود من العواد، ومن أنصار ومحبي وتلامذة الأنصاري، ثم من كاتب القصة نفسه، حيث رد بمقالتين رزينتين هادئتين، ولم يش أن يجاري العواد في قسوته وسلاطته. وتدور معركة أخرى أكثر رقيا وأناقة وجمالا، بين حمزةشحاتة وعبدالله عريف على صفحات صوت الحجاز أيضا، ولكن بعد سنوات ست من المعركة الأولى المبتذلة، فقد ألقى حمزة محاضرة في جمعية الإسعاف الخيري بمكةالمكرمة بعنوان «الرجولة عماد الخلق الفاضل» حضرها حشد كبير من الأدباء وجمهور غفير من الناس بعد أن كاد ينقضى موسم حج ذلك العام 1358ه، وقد أثار المحاضر الفيلسوف إعجاب الحضور، وقاطعوه بالتصفيق أربعا وأربعين مرة كما يذكر عزيزضياء في كتابه «حمزة شحاتة قمة عرفت ولم تكتشف» وكما يشير أيضا في مقدمة هذه المحاضرة الرائدة التي نشرتها «تهامة» بالاسم نفسه وكتب عزيز ضياء وصفا دقيقا في مقدمة هذا الكتاب للمشهد في تلك الليلة التاريخية - كما أسماها - ورسم بريشته البارعة وأسلوبه الشيق ملامح المحاضر وزيه وطريقته في الحديث وفضاء المكان وطبقات الحاضرين وانفعالاتهم معصاحب المحاضرة. كتب عبدالله عريف مقالة يمتدح فيها المحاضر ولا يريد أن يستنقصه؛ لكنه يرى أن اندفاع الجمهور للحضور والتهاب أكفهم بالتصفيق أكثر من أربعين مرة؛ إنما هوضريبة الإعجاب ب أدب وفكر حمزة شحاتة، وأنه انسياق من الجماعة إلى الت أثر بالشعور العام، لا شعورا فرديا بقيمة معاني المحاضرة وأفكارها التي ناقشتها، ثم ثم توقف عند فكرة وردت في المحاضرة ور أى أنها ليست مقبولة في كل الأحوال؛ وهي أن أن المنظر الجميل جمالا حقيقيا لا يفقد أثره، ولا يندثر تأثيره من النفس في زمن قصير « إنما يكون الإصفاء والإفلاس عندما تفقد الصورة الجميلة جمالها فقدانا ذاتيا يسلبها جمالها؛ لا فقدانا يحسه الناظر إلى تلك الصورة. ويرى عريف أن الإفلاس يقع حين تفقد الصورة ت أثيرها بانحلال مقومات الجمال فيها؛ بينما يذهب حمزة إلى أن الجمال يفقد بامتلاء الناظر إليه وتشبعه به، كارتواء الظمآن من الماء فلا يكون لهوفا عليه بعد أن يطفئ ظمأه، والجائع بعد أن يشبع جوعه، فتجدد بواعث الإحساس بالجمال بتعدد المناظر واختلافها وتبدلها، فلا يدوم جمال في كل حال؛ بل يشع بجمال في حالة احتياج الإنسان الناظر إليه، وحين يستصفيه بطول مدوامة النظر يفنى وينقضي أثره في النفس !. هذا ملخص أفكار هذه المعركة الرفيعة البديعة التي انقسم فيها القراء والمتابعون إلى فريقين؛ فريق ي ؤيد حمزة في ما ذهب إليه من الاستصفاء، وعلى ر أسهم أحمد عبد الغفور عطار، وفريق ثان ي ؤيد عبدالله عريف في ما يراه من عدم الاستصفاء وعلى ر أسهم محمد عمر توفيق، وطالت المعركة أشهرا أنتجت لنا أدبا مقالياساميا خاليا من السباب والشتائم والتعريض والعنصرية والاستنقاص كما اندفع بشئ من ذلك العواد في المعركة الأولى التي دارت حول مرهم التناسي الآنفة الذكر. ثالثاً: الرواية السعودية لا يختلف النقاد على أن رواية «التوأمان» الصادرة عام 1349ه الموافق 1930م لعبد القدوس الأنصاري كانت الرواية الأولى في الأدب السعودي، وهي بداية متأخرة بالفعل عن الانطلاقات الأولى للرواية العربية في أقطار عديدة، ولا أعني النضج والاستواء الفني، فشأن هذا أن يأتي متأخرا بعد اكتمال دورة المحاولات الأولى كما هو الأمر في كل فن من الفنون؛ فبين «التوأمان» للأنصاري عام 1930م و» وي إذن لست بإفرنجي» لخليل الخوري الصادرة في لبنان عام 1859 م سبعون عاما تصف بوضوح عمق مؤثرات النهضة والانفتاح على الثقافات الأخرى في منطقة الشام ومدى هيمنة روح الانغلاق والانكفاء على الذات وتسلط مخاوف التواصل مع المختلف في الحجاز وشبه الجزيرة العربية، وربما كان الأقرب إلى التواصل والت أثير في إقليم الحجاز على الأخص مطلع القرن العشرين ما كانت تنتجه مصر من بواكير أدب جديد هو ثمرة أيضا في جزء كبير منه للتواصل الحضاري الذيسبق مطلع القرن بما يقرب من قرن من الزمان؛ حين بدأ محمد علي باشا عام 1813م إلى عام 1844م في إرسال عدد من النجباء من الطلبة الأزهريين إلى إيطاليا والنمسا وفرنسا لتعلم الصنائع والمهن واللغات وعلوم العصر الجديدة، وكان إجمالي من ابتعثهم ثلاثمائة وتسعة عشر طالبا في تسع بعثات من ضمنهم اثنان من أبنائه واثنان من أحفاده في الدفعة الأخيرة عام 1844م إلى فرنسا تلك التي سميت باسم بعثة الأنجال، وكانت تضم ثلاثة وثمانين طالبا، وهي أكبر البعثات، وأسند الإشراف عليهم ومتابعتهم إلى الشيخ الأزهري المتسامح علي مبارك؛ فنتج عن هذه البعثات التهيئة لتمدين وتحديث الحياة المصرية خلال أجيال لاحقة أسهمت بالقدر الوافي الم ؤثر ليس في مصر وحدها؛ بل في معظم بلدان المنطقة العربية في مجالات من العلوم والمعارف والآداب المختلفة. لقد سبقت منطقة الشام مصر في أوليةصدور الرواية بما أنتجه خليل الخوري، ثم تبعتها مصر عام 1885م بأول رواية نسائية في الأدب العربي لعائشة التيمورية التي أسمتها «نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال» ثم برواية زينب فواز الأديبة اللبنانية ابنة جبل عامل المقيمة في مصر «حسن العواقب أو غادة الزاهرة» التي صدرت عام 1895م. أما الرواية المصرية الرجالية فقد تأخرت إلى عام 1914م بصدور رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، والذي يُعتقد وهما أ?ن روايته هي الرواية الأولى في الأدب العربي الحديث؛ على الرغم من إفادة مصر الكبيرة من نزوح الشوام إليها نتيجة الاضطهاد التركي في الصحافة والمسرح والمقالة، وتولد فكر طليعي جديد أ?خذ يعيد النظر في موروثات فكرية وأساليب كتابية، ويدعو إلى التجديد واحتذاء مظاهر التمدين المناسبة للعصر، في غلو أحيانا واعتدال في أحايين أخرى، ومن هؤلاء رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وقاسم أمين، ومحمد حسين هيكل، وعلي ومصطفى عبد الرازق، وطه حسين، وغيرهم، ويظهر هذا غلبة الصوت الفكري الواضح البعيد عن مداراة الفن على تحليق الخيال وضبابية الصورة، وتلك مرحلة لاحقة لتطور الحياة وسعيها في طريق الاكتمال والنضج؛ إذن إن الفن عادة ي أتي لاحقا بعد الأيدلوجيا أو الثورات الفكرية، وحين يكون معها ف إنه يسير وئيدا وبحذر أو بترميز واستحياء؛ لأن الصوت العالي حينئذ يكون للثورة الفكرية. أردت من هذه الإشارات التاريخية العابرة أن أقف على ذلك الفضاء الواسع المرير من التغييب المعرفي والعزلة الحضارية الفاصل بين ما كانت تضطرب به الشام ومصر من محاولات البعث والنهوض ومن حركات التجديد والتحديث، وما كانت تغط فيهشبه جزيرة العرب من تخلف وسبات وموات ! فبين التو أمان الحجازية وأول رواية عربية «وي إذن لست ب إفرنجي» لخليل الخوري سبعون عاما ! وبينها وأول رواية مصرية نسائية لعائشة التيمورية « نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال «خمسة وثلاثون عاما ! وبينها وأول رواية مصرية رجالية «زينب» لمحمد حسين هيكل خمسة عشر عاما !. مراحل تطور الرواية السعودية يختلف الباحثون في النظر إلى مراحل تطور الرواية السعودية؛ فيقف بعضهم عندصدور رواية قوية مؤثرة، أو عند وقوع حدث سياسي كبير، أو عند نهاية قرن وبداية آخر، أو حتى نهاية عقد وبدء عقد جديد. ولكن بعد طول تبصر في توالي النتاج الروائي السعودي على مدى أكثر من ثمانية عقود؛ وجدت أن الرواية السعودية مرت بالمراحل التالية بإيجاز: 1 - مرحلة الريادة وبد أت بصدور رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري الموظف بديوان إمارة المدينةالمنورة - كما عرف بنفسه على الغلاف الداخلي للرواية - عام 1349ه الموافق 1930م عن مطبعة الترقي بالقيمرية في دمشق، وقد أراد الأنصاري ألا ينازعه أحد فيشرف البداية فكتب أيضا على الغلافين الخارجي والداخلي «أول رواية صدرت بالحجاز» ولأن الكاتب كان يتعمد في ما يبدو الإسراف في الإغراب والحوشي؛ ف إنه كتب على الغلاف الداخلي ملحوظة أبان فيها أنه شرح الألفاظ الصعبة والغريبة مما يمكن أن ينغلق فهمها على الناشئة والمبتدئين، كما قال !. وهذا الأسلوب الذي ارتاده القاص لم يكن غريبا عليه ولا متكلفا عنده؛ فهو الأسلوب الذي يكتب به مقالاته في أم القرى - آنذاك - ثمصوت الحجاز والمنهل لاحقا؛ فلم يستطع التفريق بين أسلوب كتابة المقال الذي قد يحتمل التقعر- وإن كان غير محمود - وأسلوب كتابة القصة والرواية السلس السهل القريب من النفس، وهو ما آخذه به أول من انتقده واشتد في توجيه اللائمة إليه محمد حسن عواد، وأعاد الكرة مرة أخرى بعد ذلك بسنتين حين نشر الأنصاري قصته «مرهم التناسي» كما مرمعنا. إن من غير اليسير تلخيص أفكار كل روايةصدرت من مجمل ما يقرب منسبعمائة رواية سعودية أو أكثر بقليل خلال ثمانين عاما؛ لكن هذا لا يعني أن نشير إشارة عابرة إلى الفكرة الرئيسة في الرواية الأولى على ر أس كل مرحلة باعتبارها فاتحة عهد فني جديد. تقوم رواية التو أمان على نظرية وعظية عند الكاتب فحواها: أن التعلم في المدارس الأجنبية يورث الفساد، وأن طلب العلم في المدارس الدينية يخرج الأبناء الصالحين النافعين لأمتهم ! فأدخل فريدا مدرسة أجنبية وأخاه رشيدا - وللاسم هنا دلالةضمنية - مدرسية عربية دينية؛ وسار بأحداث الرواية السردية التعليمية لأن تثبت ما ذهب إليه، فصلح رشيد وفسد فريد !. وتأتي الرواية الثانية بعدها بخمس سنين؛ فيصدر محمد نور الجوهري روايته «الانتقام الطبعي» عام 1354ه ليقدم لمجتمعه في صفحات قليلة وب أحداثسردية متعسفة موعظة عن عاقبة الانحراف الجنسي. 2 - المرحلة التعليمية 1367ه - 1378ه وندخل في سياقها هذه الروايات: - فكرة «بدوية الجبل التائهة بين وديان الطائف» لأحمد السباعي، أو «آسيا» التيصدرت عام 1367ه 1948م وهي أول تجربة قصصية للكاتب، ولعلها أيضا الرواية السعودية الأولى الخالصة لقضية المر أة ومحاربة التقاليد المعيقة لها عن التعلم والإسهام في الحياة الاجتماعية والاقتصادية مع الرجل؛ فهي «قصة فتاة عاشت لأفكارها، ودانت لما تعتقد، ولم تخضع قط لتقليد لا يؤيده منطق، أو تدعمه بينة واضحة». وتدور الرواية حول فتاة صغيرة يفقدها أهلها القادمون من جبال الطائف في رحلتهم لأداء فريضة الحج بعد مقيلهم في طريق الحاج، ويعودون إليها باحثين سائلين دون جدوى، ويجدها حجاج مروا على طريق أهل الفتاة ولا يعثرون على أ?ثر لأهلها فيربونها معهم، وتنشأ بينهم، وتتعلم الجدل والمماحكة والإقناع، ويتكون لها عقل واع يبطل كثيرا من الأوهام، وحين حجت مع عائلتها التي تربت بينهم يعجب بهاشاب فيلاحقها، ويتتبع أثرها إلى أن ذهبت أمه لخطبتها فتشعر بشئ من الميل والانجذاب إليها لتكتشف أنها ابنتها المفقودة الضائعة قبل عشرين عاما. - البعث، لمحمد علي مغربي 1367 ه - 1968م - غادة أم القرى لأحمد رضا حوحو 1367ه - 1968م - سمراء الحجازية لعبد السلام هاشم حافظ 1375ه 3 - المرحلة الفنية 1378ه - 1414ه وتستفتح رواية «ثمن التضحية» لحامد دمنهوري هذه المرحلة برواية ناضجة فنيا، مكتملة العناصر، سلسة الأسلوب، مبتعدة عن أوشاب المرحلتين الأوليين من مباشرة ونصح وتوجيه مواعظ، فقد انتقل الدمنهوري بفن كتابة الرواية من محيطه الحجازي إلى المحيط العربي الكبير الذي ذهب إليه دارسا ومتعلما، فاختلط بكتابه، وقرأ لهم ماشده وجذبه إلى الإبداع الجديد الذي كانت قد وصلته الرواية العربية على يدي كتابها الكبار أو الذين بزغ نجمهم للتو؛ كطه حسين ومحمود لاشين، ونجيب محفوظ، وعبد الحميد جودت السحار، وغيرهم، وتأسى بما قرأ، فأبدع الرواية السعودية الفنية الأولى التي تنطلق من البنى الكلاسيكية للرواية بمفهومها العربي أو العالمي - آنذاك - ومثلت «ثمن التضحية» مرحلتها خير تمثيل من حيث تملك الكاتب أدواته، واختفاؤه خلف شخصياته، وقدرته على الوصف، وتمكنه من إجلاء ما تختلج به وجدانات أبطاله، وتسليطهشيئا من النقد غير المباشر على التقاليد حين تعرض مناسبة سانحة للنقد، ولذا يمكن أن نسمي هذه الرواية ذات الأبعاد المتعددة بأنها رواية الوصف ونقد التقاليد برفق وفي غير مباشرة. وتتلخص الرواية في ما يشبه السيرة الذاتية لأحمد البطل الرئيس الذي يقيم من ر ؤاه وانتقالاته وتجاربه وأفكاره معمارَ الرواية الفني، وتشاركه ابنة عمه خطيبته «فاطمة» التي لم تنل حظا من التعليم، وأمه الأمية التي تمثل الجيل الأول، ووالده وعمه، ثم المتعلمة المثقفة الطليعية المصرية «فايزة» التي تعرف عليها في أثناء دراسته في جامعة القاهرة أو فؤاد الأول كما كانت تسمى قديما !. والتضحية هنا المقصود بها تسامي بطل الرواية «أحمد» عن الاستجابة لنوازعه الذاتية، وصرف نفسه عن تحقيق هواها بالزواج من «فايزة» التي أعجب بها، والانصياع في غير قناعة إلى المفهومات التقاليدية، وما يرغبه والداه، وأهله بزواجه من «فاطمة» التي كانت تنتظر عودته من البعثة في لهف واشتياق وخوف من أن تختطفه إحدى فتيات الجامعة المصرية !. ونُدرج في هذا السياق الطويل من تنامي وتدرج الرواية السعودية في مراتب الفن، ونيل عدد منها نصيبا وافرا في التجويد، وتواضع عدد أخر ليس بالقليل؛ نُدرج ما ينيف على أكثر من مائتي رواية صدرت مابين 1378ه إلى عام 1414ه عامصدور «شقة الحرية» فاتحة العهد الجديد للرواية السعودية بمنهج مغاير مختلف كل الاختلاف. نعد من المرحلة الفنية ما كتبته قائمة طويلة من الروائيين على مدى ما يقرب من نصف قرن، ومنهم - مثلا - حامد دمنهوري في «ومرت الأيام» التيصدرت عام 1383ه ومحمد زارع عقيل، وسميرة خاشقجي، وإبراهيم الناصر، وهدى الرشيد، وحمزة بوقري، وغالب حمزة أبو الفرج، وأمل شطا، ومحمد عبده يماني، وهند باغفار، وفؤاد عنقاوي، وفؤاد صادق مفتي، وعصام خوقير، وعبدالله جفري، وعمر طاهر زيلع، وغيرهم كثيرون ممن لم يصدروا إلا رواية واحدة يتيمة ثم يصمتون !. ولا نكاد نجد تأثيرا بينا لنهاية قرن وبداية قرن على مسيرة الرواية؛ رغم أن حدثا أو أحداثا وقعت مصادفة متوجة نهاية القرن الرابع عشر الهجري؛ مثل: حادثة الحرم المكي الشريف 1-1-1400ه وثورة الخميني؛ إلا أن التأثير لم يكن انقلابيا كما حدث لاحقا بعد عشرة أعوام من هذا التأريخ بغزو العراق للكويت وقدوم قوات أجنبية من ثلاثين دولة، ممهدا لتغيرات اجتماعية وثقافية عنيفة، بالتعاضد مع مكونات تقنية اتصالية جديدة دخل إليها العالم كله في العشر الثانية من القرن الهجري الجديد؛ فقد بد أ البث الفضائي وأخذ يتزايد سنة بعد أخرى، وكان للقنوات الفضائية التي بدأت بقناة CNN المرافقة للجيش الأمريكى عام 1991م ثم بقناتين هما MBC والفضائية المصرية بعد انقشاع غمة الحرب أثر غير قليل في تهيئة الاذهان للتغيير، إلى أن ابتدأ الفضاء يتزاحم بالبث من كل أنحاء العالم عبر تقنيات تزداد تقدما وسهولة ووصولا إلى آفاق الدنيا في الشرق والغرب !. بينما نلحظ أن المستجدات السياسية - كحادثة الحرم - مثلا أو الاقتصادية الضاغطة كانخفاض سعر البترول قد أثر تسلبا في إضفاء مزيد من المحافظة إلى ما بعد غزو العراق الكويت عام 1412ه 1991م أو قلة الإصدار؛ لضعف السيولة المالية وتشدد الرقابة الإعلامية في الفسح. 4 - المرحلة الحديثة 1414ه - 1323ه - شقة الحرية لغازي القصيبي لا يرى بعض الباحثين أن هذه الرواية يمكن أن تعد فاصلة زمنية أو فنية في مراحل تطور الرواية السعودية، ويذهبون إلى أنها امتداد طبعي للمرحلة السابقة التي بدأت - عندهم - مع مطلع القرن الهجري الجديد وفي هذا الر أي إغماض عين غير بصيرة بما جد من أحداث سياسية وفكرية وإعلامية واجتماعيةساعدت على أن يمتلك القاص القصيبي شيئا من جرأة لم يكن يمتلكها من قبل لكتابة عمله هذا. وأجد أن التعامي عن المكونات السالفة الذكر، والأخذ بالعقود الزمنية حتى ولو لم تحدث أثرا؛ لا يخلو من تبسيط وتهوين في مسألة التقسيم الزمني أو المرحلي؛ على حين يتخذ طابع الفواصل حدا تغييريا مستجيبا لمكون فني أوسياسي أو اقتصادي أو فكري جديد، وإذا تساوت العقود من حيث عدم حدوث متغير أو مؤثر مهم فلا عبرة بها. الحق أن «شقة الحرية» تعد نهاية مرحلة وبداية مرحلة، وستكون ملامح الشقة وأسلوبها ومنهجها وجرأتها والشفافية العالية فيها أسلوبا جديدا للكتاب القريبين منه أو البعيدين في ما يأتي بعده بسنوات؛ فقد استلم الجيل الجديد الراية المغامرة من غازي، وحطموا «التابو» المحرم وأضاف بعضهم إلى الرواية الجديدة المغامرة تقنيات فنية عالية من مدارس فنية جديدة خرجت بالرواية مما يشبه التسجيل وتدوين الذكريات كما فعل غازي إلى الرواية الفنية التجريبية التي تنعتق من البنية الكلاسيكية للرواية إلى فضاء مفتوح ومطلق سيدخله الجيل الجديد كله تقريبا بصور وبأساليب متعددة بدءًا برواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع الصادرة عام 1423ه في طبعتها الأولى. ولكي نكون أقرب إلى الدقة في إطلاق الأحكام الفنية على هذا النص السردي؛ ف إنشروط التقانة الفنية بصورها الحديثة وبتوافرها في بنيات الرواية الفنية الممتازة لا تتوافر بالقدر الذي نجده عند المتمرسين في كتابة الرواية الحديثة؛ كدقة التصوير، وتوظيف المنولوج، واستخدام تقنية الفلاش باك، وتقاطع الأصوات، وتداخل وتناوب الشخصيات في حمل الأحداث وتصعيدها بما يحدث حبكة تشوق المتلقي لمتابعة الصراع في القصة؛ لعل ما أخفى وقلل من وط أة غياب هذه العناصر اعتماد الروائي على استخدام أسلوبينشفعا له في الارتفاع بعمله إلى درجة الت أثير والفصل بين زمن روائي ولى أو يكاد وزمن آخر حل أو هو قادم؛ هما الجر أة الشديدة في وصف ما يجري دون تحفظ، والإسراف في الواقعية التي توشك أن تنزل بالرواية منسدة معمارها الخيالي إلى التصوير الفوتوغرافي أو السينمائي بما ينقله من حوارات طويلة بين الشخصيات بلهجاتها العامية كما هي دون تغيير، إمعانا في مزيد من الواقعية التسجيلية. ويمكننا هنا أن نطلق حكما نقديا لا نجد أن فيهشيئا من قسوة؛ وهو أن هذه الرواية تنتمي إلى ما يمكن تسميته ب: الرواية السيرية، لا الرواية الخيالية التي تعيش أحداثها في خيال الكاتب، لا في واقعه، الروائي غازي هنا يبني من أحداثسيرته معمارا روائيا ويضفي عليها صورا خيالية لتكونسيرته الروائية هنا ليستسيرته؛ بل هي رواية عنسيرة من يعرفه أشد المعرفة، ولذا نجده ينفي في الصفحة الأولى من الرواية أن يكون هو فؤاد الطارف البطل الرئيس في الرواية، بل يقدمه على أنه يعرفه حق المعرفة وملتصق به؛ لكنه ليس هو على كل حال !. وملخص أحداث الرواية يدور حول خمس شخصيات تسكن في شقة واحدة بالقاهرة، تختلف في انتماءاتها الطبقية والعائلية والفكرية، وتتفاوت في المحافظة والتحرر، ويصف الروائي ما يدور في الشقة وخارجها من علاقات مع النساء، وما تضطرب به من حوارات، وهكذا يصعد المواقف في تتبع الشخصيات إلا أنه يكون حفيا بفؤاد وكأن العمل كله خالص له، فقد بدأ بالتهيئة لرحلته للدراسة من البحرين بعد الثانوية ووداع أمه له إلى أن تخرج في جامعة القاهرة، ويكمل الروائي هذه الرواية السيرية ولكن بلغة أرق، وبتصوير أبلغ، وبر ؤى أكثر نضجا، وباستخدامات لتقان فنية أوعى وأذكى كالمنولوج والاسترجاع في روايته الثانية «العصفورية». تعد شقة الحرية بدءا لمرحلة حديثة للاعتبارات السالفة المذكورة، ولأنها فتحت الباب على مصراعيه لمزيد من الجرأة التي قد لا تكون محمودة في كل الأحوال، وهي جرعات تتقاطر بين عمل وعمل وسنة وأخرى عند من أتى بعده من الروائيين والروائيات، فقد بد أها غازي ولم يستطع أحد أن يوقفها، ربما بت أييد من متغيرات اجتماعية كثيرة ولأسباب عالميةسنعرض لها في المرحلة الخامسة الأخيرة من مراحل تطور الرواية السعودية. - ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة (العدامة - الشميسي - الكراديب) لتركي الحمد 1416ه. وتسير في خط الأحداث السيرية للبطل «هشام العابر» بتتبع دقيق لمراحل نضج البطل ولما يقتحمه من مغامرات عاطفية وفكرية أولى في الجزء الأول، ثم من تورطٍ في العمل الحزبي والسياسي الم ؤدلج والمغامرات الجنسية المكشوفة في الجزء الثاني، ثم ما يمنى به البطل من مطاردة سياسية وأمنية إلى أن أدخل إلى سجن الكراديب كما أسماه، ويقص ما يجري فيه مع المحققين الأمنيين والسياسيين. إذاً تتصاعد أحداث الرواية وفق ثلاثة أبعاد؛ أيدولوجية، وجنسية، وسياسية، وتدور وقائعها في ثلاث مدن؛ هي الدماموالرياضوجدة. - الغيمة الرصاصية لعلي الدميني 1418ه وهي رواية تسجيلية مؤدلجة قائمة على تدوين وتسجيل الأحداث والتغيرات المفاجئة التي أحدثها الغزو العراقي للكويت ومجيء القوات الأجنبية، والصراع المعلن أو الخفي بين تياري المحافظة والتحرر، ويصف انطلاق الحرب الإعلامية بين التيارين، وتنافسهما لحصد مكاسب على المستوى الشعبي والحكومي بإحداث مزيد من الضغط الإعلامي عن طريق خطب المساجد والندوات والكاسيت ومنشور الفاكس الذي كان الوسيلة الرائجة للت أثير آنذاك بالإضافة إلى الكاسيت. ومن ذلك تصويره الدقيق لمسيرة قيادة المرأة للسيارة، وما أعقبه من تصعيد ديني وأمني، وما تلى تلك المرحلة العاصفة من توتر ديني، وتوجه إلى العنف من بعض الاتجاهات الدينية المتطرفة. 5 - المرحلة التجريبية الحديثة 1423ه لا يمكن أن نغفل عن حدث كوني كبير قسم العالم إلى فسطاطين، وأشعل وقودا من الحروب في مواطن عدة، وأوقد مطاردة دامية لتيارات التطرف الديني، وأثار كوامن الدعوات إلى التحرر من ربقة الهيمنة المحافظة في ديار العرب؛ تلك التي كانت ساكنة متختبئة تحت هيمنة المد القوي المحافظ قبل نهاية العشر الثانية من القرن الخامس عشر الهجري. هذا الحدث هو ما وقع في الحادي عشر من سبتمر عام 2001م من تفجير لأبراج نيويورك، وما تبعه لاحقا من أحداث لاستئصال شأفة التطرف في عديد من المواطن العربية والإسلامية، ثم ما واكبه - ربما مصادفة - من دخول العالم إلى عصر الانترنت؛ فقد وصل الحبال المتقطعة بين الأفراد والشعوب والحضارات، وأتاح فضاء واسعا للحرية في التعبير، وأصبح كل كاتب أو صاحب رأي هو رقيب نفسه، وهو المسؤول عما يقول من آراء أو يطلق من أحكام. وقد كانت رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع ثمرة لكل هذه التطورات السياسية والدينية والتقنية والحضارية، وهي أيضا نتاج مدونة للكاتبة على الانترنت لم تكن مستطيعة نشرها من قبل لو كتبتها في أية مطبوعة صحافية. وقد نجد أن تفسير الاندفاع الكبير إلى التعبير بحرية، وطرق الأبواب المحرمة الموصدة بعد 11 من سبتمبر كان مبررا إلى حد كبير بحدوث هذه المتغيرات المتسارعة التي لم تكن في حسبان البشر. إذاً تبدأ هذه المرحلة التجريبية المفتوحة المشرعة على كل الاتجاهات بصدور رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع وقد قدم لها غازي القصيبي بمقدمة قصيرة تشجيعية؛ حين رأى شيئا من جرأة بشر بها في روايته الأولى، وذهب ظنه إلى أن رجاء هذه الفتاة الناشئة التي كانت تتعلم التعبير عن خواطرها عبر مدونات الانترنت ولم تكن أكملت بعد عامها العشرين ستتقدم بمستوى التعبير الروائي على الصعيد الاجتماعي خطوات إلى الأمام في قادم الأيام، ولا يخامرنا شك في أن غازي لم يكن مأخوذا بتقنية العمل بمستوياته الفنية المتواضعة قدر ما كان معجبا إلى حد كبير بتملك الكاتبة شجاعة معنوية دفعتها إلى التعبير عن شيء من الهواجس الأنثوية الصاخبة الضاجة المتمردة في مجتمع الرياض المحافظ !. تدور أحداث الرواية باختصار حول يوميات أربع فتيات يدخلن في تجارب عاطفية ومغامرات مع شبان مراهقين، وتصف الكاتبة سيرة وتجربة كل بطلة من بطلاتها بطريقة تقاطع أصوات الشخصيات وتداخلها كمذكرات يومية أو ليلية بأدق تعبير عن تطورات تلك العلاقات وسط حصار من التقاليد والعيون المتربصة؛ إلا أن الفتيات الأربع ظهرن وك أنهن لا ينتمين إلى الطبقة الشعبية أو الوسطى؛ بل إلى طبقة مخملية مترفة تتوافر لهن من وسائل الرفاهية والترفيه والخدمة وشئ من حرية التصرف والانطلاق والذهاب والمجئ ما لا يمكن أن تحظى به أية فتاة أخرى من الطبقات الوسطى أو الفقيرة. ?ثارت رواية «بنات الرياض» حينصدرتضجة كبيرة، واحتلت مساحة واسعة من التغطيات الإعلامية ومن التعليقات في الانترنت وفي الصحف، بين مشجع مرحب ومعارض منتقد، ولكن هذه الحملة الإعلامية كانت فيصالح الرواية فقد اندفع الناس وراءها باحثين عنها؛ ولهذا طبع منهاسبع طبعات متوالية وترجمت إلى لغات أخرى عالمية، وكتب على منوالها أعمال مشابهة كماصورت ذلك رواية «شباب الرياض» واصفة ما يحدث من مغامرات مراهقة لعدد منشبان المدينة بالطريقة نفسها التي غامرت بها فتيات المدينة أيضا !. لقد انطلقت الرواية السعودية من عقالها بعد «بنات الرياض» ووجدت في ترحيب واحتفاء غازي رائد الرواية الحديثة واهتمام وسائل الإعلام وشغف الناس بهذا النوع من الانكشاف ونجومية من يكتب عملا كهذا دافعا كبيرا إلى الإقبال بشراهة مثيرة التعجب والاستفهام على الكتابة الروائية بعامة، وعلى الكتابة المكشوفة الفضائحية بخاصة، حتى لقد غدا من سمات الرواية السعودية الحديثة كي تروج وتلقى قبولا من الناشرين والقراء على حد سواء أن تكون متبذلة أو متضمنة شيئا من صور الابتذال على الأقل؛ لتجد من يبحث عنها في المكتبات ومعارض الكتب !. وامتدادا لهذه الموجة الكبيرة والواسعة التي لم تقف بعد إلى وقت كتابة هذه الورقة صدر ما يقرب من خمسمائة رواية خلال سنوات عشر من عام 1423ه إلى هذا العام 1433ه. وهي في مجملها تسير في هذا الطريق الذي عبده غازي وانطلقت فيه مهرولة رجاء الصانع ووجده القاصون والقاصات مفتوحا ومضاء ومرصوفا بعبارات التشجيع والدعم والشهرة والمكاسب المادية والمعنوية؛ فتوالت الإصدارات متشابهة بقدر أو بآخر في قواسم مشتركة، وكأنها انطلقت من عقال، أو خرجت من اعتقال، أو تملك الكاتبون ألسنة غدت تنطق بعد أن كانت مصابة بالعي والحصر. ونمثل على هذا التدفق الروائي الذي لا يكاد ينقطع ويصب جله أو أكثره في خانة التعبير عن المحرم أو التماس مع التابو مع اختلاف بينها في نسبة التعبير وانكشافه أو تواريه: القرآن المقدس لطيف الحلاج، والآخرون لصبا الحرز، وملامح لزينب حفني، وعرق بلدي لمحمد المزيني، وثمن الشوكولاتة لبشاير محمد، وسقر، والحرملك لعائشة الحشر، والبحريات لأميمة الخميس، والواد والعم لمفيد النويصر، وشارع العطايف لعبدالله بن بخيت، وترمي بشرر لعبده خال، وطوق الحمام لرجاء عالم، وعيون الثعالب ليلى الأحيدب، وسقف الكفاية، وطوق الطهارة لمحمد حسن علوان، والحمام لا يطير في بريدة، والقارورة ليوسف المحيميد، وسورة الرياض لأحمد الواصل، وغيرهم. وخلاصة القول في الرواية: لازال السيل الروائي هادرا حاملا معه الغث والسمين، ولازال الزبد طافيا، يحمل بين تموجاته وغموضه وصعوده ونزوله أوراق الأشجار والحشائش والأعواد وما واجهه السيل الهادر في طريقه ! وإلى أن تهدأ هذه الموجة التي توشك على الانتهاء والركود ليس لنا بد من تتبع دوائرها دون أن نحكم على ما تنتجه حكما نهائيا. ومما يظهر لنا أن غثاء كثيرا يُنتج سيُنسى وتذروه رياح الزمن، وأن ما يمكن تصفيته من كل هذا التراكم المتزايد عدد مميز محدود سيبقى تأريخا وتدوينا فنيا باذخا لمشاعر الإنسان وخواطره وأحلامه وأشواقه وأفراحه وأتراحه ومعاناته وما يتوق إليه من غد جميل مشرق مكتوبا ومحفورا بأحرف روائية سعودية مبدعة تتجاوز المحيط الضيق إلى الأفق الإنساني الواسع الرحب. د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم العوين / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية