محمد بن عيسى الكنعان * نقلا عن "الجزيرة" السعودية السنوات الخمس الأخيرة من عمر المسلسل السعودي الرمضاني (طاش ما طاش) شهدت احتدام الجدل الشعبي حول بعض الأفكار الجريئة التي طرحها في قوالب كوميدية، خاصةً تلك الأفكار التي تمس جوانب من الحالة الدينية لدينا. كما تحول ذلك الجدل الشعبي في كثير من تجلياته الواقعية إلى حوار فكري بين كتاب الرأي والنخبة المثقفة من مختلف الرؤى والتيارات الفكرية على ضفاف الصحافة المحلية وفي بعض قنوات التلفزة الفضائية، فبين رافض لطرح (طاش) ويراه (طائشاً) لأنه يُقحم الحالة الدينية في كل قضية، وآخر متحفظ على بعض مواضيعه التي يصنفها في إطار التجني والتجاوز المفرط في مقابل مواضيع هادفة يقدمها، وثالث يؤيد بقوة طرح (طاش) معتبراً أنه يُشخص الواقع المحلي بطريقة كوميدية سهلة ومحببة تكشف عن سلبيات اجتماعية فينا، وتضعنا أمام مشاكلنا الواقعية بتجرد، وأنه فن خفيف لا يجرح بشخصيات معتبرة ولا يمس ثوابت اجتماعية. ذلك الجدل بعمومه أو الحوار في بعض مظاهره دخل مرحلة البيات (الفني) العام الماضي عندما اختفى الطاشيون من على شاشة رمضان المعتادة، وحلّ بدلاً عنهم (عيال قرية) كمحاولة لتغيير النمط الدرامي والقالب الكوميدي، إلا أن هذه المحاولة الوحيدة واليتيمة فشلت فشلا ًذريعاً على أكثر من مستوى، سواء ًالأفكار أو الأداء أو الإخراج، ما أوقع (عيال قرية) في حرج كبير أجبرهم على ما يبدو إلى العودة إلى ميدانهم (طاش) مع التأكيد بالوعود التقليدية أن يكون فكرهم مغايراً وأدائهم معتبراً وإخراجهم محترفاً، فكان (طاش 16) الذي تم عرضه خلال شهر رمضان المبارك. فما الذي تغير عن سابقه أو ما الجديد الذي تحقق فكراً وأداءً وإخراجاً؟ دون الدخول في الجدلية الممقوتة بين تأييد (طاش ما طاش) أو رفضه، لكوني أتعامل مع كل حلقة من طاش على حدة، وليس وفق لغة التعميم سواءً بالرفض أو القبول، يمكنني أقول: إن البداية كانت تحمل مؤشراً إيجابياً على أن (طاش 16) سيكون مختلفاً وهادفاً، إلا أن هذا المؤشر دخل المنطقة الحمراء الهابطة بعد أن استمتعنا بحلقتي (الفقر) و(التطوير)، فقد عاد الطاشيون إلى أسلوبهم التقليدي الممل المعتاد الذي أقل ما يوصف به أنه (تهريج) باسم (التمثيل)، حتى أن ذلك الأسلوب حمل سمات ارتبطت ب(طاش) السابق وترسخت بالحالي أبرزها.. (تكرار الفكرة) كما في حلقات : (تحويل الجنس وعيد وسعيد وبير جدي وبطاقة الأحوال وغيرها)، فالأفكار المحورية لهذه الحلقات سبق أن نوقشت طاشياً في الأعوام السابقة، ولكن الفارق في سياق الأحداث لكل حلقة. أيضاً من سمات (طاش) المتلازمة به (المبالغة في الطرح) كما في حلقة الأب الذي تقمص دور السائق ليكشف سر هروب السائقين الذين يعملون لدى عائلته، فكيف بأفراد أسرة أولهم الزوجة لا يعرفون رب البيت، أو حلقة الطفلة العبقرية (حلا) التي نجحت في عودة أمها إلى أبيها عبر تقنية sms، أو حلقة (سيوف المها) !! فهل يعقل أن فتاة يموت أبوها ويتحرش بها زوج خالتها ثم تهرب فيلتقطها مروج مخدرات، ثم يتزوجها طبيب مرموق وصاحب مركز طبي بعد أن وجدها غائبة عن الوعي بجوار سيارته، هذه لا تحدث إلا في قصص (الخيال الهندي).. أما سمة (التشكيك) بفئات اجتماعية معينة فقد تجلت في ثلاث حلقات كفيلة بأن تعطي انطباعاً واضحاً أن إقحام الشخصية المتدينة (فاكهة) الطاشيين لغرض الاستفزاز وليس النقد والإصلاح، فلم نشاهد (داعية نسوية) تضع أرتال الأصباغ وتتعاطى مع أصحاب المعاكسات والغزل إلا في طاش وحسب معاييره ! أو التشكيك في العمل الجليل الذي تؤديه مكاتب توعية الجاليات لغير المسلمين، من خلال ذلك الطرح المتهالك عن شخصين أسلما ثم عدلا عن ذلك بعد أن واجهتهما مشكلة (الختان)، فصارا بين مطرقة الختان أو سندان حكم الردة. قطعاً أن هناك تجاوزات وأخطاء سلبية لدى تلك مكاتب التوعية، كما يوجد داعيات نساء غير منضبطات، ولكن السؤال المحوري : كم نسبة ذلك في المجموع العام؟ فهل يقاس على الشاذ وهل الفن لمناقشة الحالات الشاذة أم الظواهر العامة؟. بل إن التشكيك لم يقتصر على الشخصيات المتدينة، فرجال الإعلام والأطباء نالهم النصيب، فحسب (طاش) يمكن شراء ذممهم بسهولة من قبل شركات التبغ، لا شك أنهم غير معصومين وفيهم من يقبل ذلك، ولكن حلقة طاش حددتهم بقضية معينة وبوظائفهم المهنية. ماذا لو تم التشكيك بموظفين حكوميين محددين بوظائف معينة في دوائر وأجهزة مرتبطة بمصالح الناس كالبلديات والجوازات والمرور والصحة والجمارك؟ النتيجة أن لغة عامة ستطغى علينا في حكمنا على كل موظف نواجه منه تعطيل معاملة أو تأخيرها، لذا أقول: إن كشف أثر الرشوة يكون من خلال شخصيات بوظائف وهمية. بعد كل هذا أعتقد أن (العمر الافتراضي) لمسلسل (طاش ما طاش) قد انتهى فعلياً، لأنه لم يقدم جديداً كحاله في السنوات الأخيرة من مسيرته الفنية، فنجاح ثلاث أو أربع حلقات من مجموع حلقاته العشرينية لا تشفع له في الاستمرار، وعلى فريقه أن يقر بالوضع الذي انتهى إليه فكرياً وفنياً.