محمد بن عبداللطيف آل الشيخ * الجزيرة السعودية عندما سُئل الشاعر جميل صدقي الزهاوي عن الشاعر أحمد شوقي قال بلهجة عراقية جميلة: (هذا شنو؟ أحمد شوقي ولا شيء؛ تلميذي معروف الرصافي ينظم شعراً أحسن منه). وكان الزهاوي لا يقصد شوقي، بقدر ما كان يريد أن يلذع معروف الرصافي الذي كان وإياه يتسابقان في مضمار واحد؛ أي أن شوقي في السياق لم يكن سوى جسر لتمرير فكرة. والكاتب الصحفي غالباً ما يمرر فكرته مستخدماً الأسلوب الساخر، واللاذع في الوقت ذاته، وأحيانا (إياك أعني واسمعي يا جارة).. وكان الكاتب الإيرلندي الشهير (برنارد شو) أشهر من برعوا في هذا الفن؛ فكان يطرح فكرته بأسلوب ساخر ساحر، يحمل من النقد المبطن، والمكتظ بالإيحاءات والإيماءات والاستعارات البلاغية ما جعل أدبه فناً خَلّده، وجعل شهرته تصل إلى كل أنحاء المعمورة، وستبقى على مر الأيام. والسخرية لمجرد السخرية عبثٌ إذا لم تحمل رأياً ناقداً، أو فكراً جديداً، أو أنها لا تتحدث عن آلام الناس وآمالهم. يقول غسان كنفاني الروائي الفلسطيني في تعريفه للكتابة الساخرة: (إن السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعاً خاصاً من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يُضحى مُهرجاً). وهناك علاقة (عكسية) بين التخلف الثقافي والأدب الساخر؛ بمعنى أن شيوع التخلف الحضاري يعني غياب الأدب الساخر، والعكس صحيح. فلا يمكن أن تجد (أدبَ السخرية) عند الشعوب البدائية، ولم تعرف ثقافة الشعوب المتوحشة هذا النوع من الأدب. كما أن الأدب الساخر، والتعامل الاجتماعي معه، يُعطي مؤشراً دقيقاً ليس عن ثقافة الأفراد فحسب، وإنما عن مستوى الرقي الحضاري لآداب الشعوب. وقد عرف الأدب العربي الأدب الساخر، واعتنى به، وصفق لكتابه ومصنفيه. الجاحظ كان من أشهر الأدباء الذين طرقوا هذا النوع من الأدب، وألفوا فيه. غير أن أبا الفرج بن الجوزي في كتابه (أخبار الحمقى والمغفلين) كان الأشهر والأبرز والأجرأ في هذا المجال؛ فقد بقي كتابه علامة مميزة في الثقافة العربية. وابن الجوزي - أيضاً - كان (فقيهاً حنبلياً) ومُحدثاً وأديباً، غزير الانتاج، ويروى أنه صنف أكثر من ثلاثمائة مؤلف. ولا جدال أن البيئة التي أنتجت هذا العالم الموسوعي الفذ كانت بيئة متفتحة، ومتسامحة، تتعامل برحابة صدر مع الأدب والثقافة والمثقفين؛ فلم يسلم من نقده وسخريته ولذعاته حتى كبار القوم؛ فتتبّعَ أخبار الحمقى من الفقهاء والمفسرين والرواة والمحدثين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار، ومع ذلك لم يُرو أن أحداً اعترض عليه، أو (أنكر) عليه بدعوى (الانتقاص) - مثلاً -؛ فقد كان علاّمة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ كما يصفه معاصروه.. ويُقال إنه عندما توفي في رمضان عام 597ه 1201م (ازدحم الناس لتشييعه، فغلقت الأسواق وأفطر بعضهم لشدة الزحام والحر، وأنهم أوصلوه إلى قبره بالقرب من قبر الإمام أحمد بن حنبل بشق الأنفس). تقرأ الآن ضيق بعض الفعاليات الدينية بالنقد، ومطالباتهم المتكررة (بخنق) الحريات الصحفية، على اعتبار أن النقد، وبالذات الساخر منه، ضربٌ من ضروب التنقص والازدراء والتحقير، ثم تلتفت إلى حقبة ابن الجوزي وتقارن أجواءها الثقافية بأجوائنا الثقافية، فيُخيل إليك أنهم يعيشون في عصرنا، ونحن نعيش في عصور موغلة في التخلف، بعيدة حتى عن عصر ابن الجوزي. ولك أن تتصور لو أن كاتباً ألف اليوم في (أخبار الحمقى والمغفلين)، وضمن مؤلفه نقداً (ساخراً) لنفس الفئات التي تطرق إليها ابن الجوزي بالأمس، هل ستفسحه وزارة الثقافة والإعلام، أم ستعتبره خطوطاً حمراء لا تمس؟.