أطلب حرية السلوك فيما هو عادي كطلبي حرية الفكر .. أريد أن أنام كما أشاء لا كما تشاء الوظيفة ، وأريد أن أصحو كما أشاء لا كما تشاء الوظيفة ، وأترقب برنامجاً أو إعادة حفلٍ فاتني في إذاعة أو تلفاز ولا أريد أن يصدني دوام الوظيفة عن ذلك ؛ لهذا كنت أحمل المعاملات إلى بيتي ، وأنجزها في فراغي ونشاطي ؛ فكان جُهد الساعة يعادل جهد خمس ساعات في الدوام .. ومنها أنني عاشق لذوي النزعة الفكرية فكراً وسلوكاً وزياً وذوقاً ؛ ولهذا والله يسامحني ويعفو عني كنت في غرارة الأشد كثير السخرية سراً وعلنا وكثير التنكيت على مشايخ فضلاء لم يعجبني زيهم ، أو فهمهم للحياة ، أو للنصوص ، أو نبرة كلامهم ، أو بخل بعضهم وهلعه على المال .. وهذا أمر جارح جداً ، ولكن التوبة تجبُّ ما قبلها ، وأخذت نفسي بالرياضة الشديدة ، وبقي عندي بعض داء مخامر ؛ فمنهم من يبتهج قلبي لرؤيتهم أو سماعهم وأتمنى تقبيل جبين واحد منهم .. وآخرون أجد عليهم النقد الذي ولَّد سخريتي الآثمة وتنكيتي ؛ فأروض نفسي عن السخرية المحرَّمة ، ولكنني أبتسم على الرغم مني ، وهذا الداء في النزعة الفردية كرَّه إليَّ المنصب ..ومنها أنني لم أنل منصباً قياديَّا إلا مرتين من عمري : مرة كنت مدير الخدمات برئاسة تعليم البنات ، ومرة وهي آخر وظيفة كنت مدير الإدارة القانونية بوزارة البلديات والشؤون القروية. كيف أبقاني يبدو أن الرغبة لديك قوية في تولي هذه المناصب. - لم أملأ منصبي هيبةً ، ولم يكن جانبي ليناً فحسب ، بل كان بساطاً موطوءاً ؛ وإني لأعجب كيف أبقاني في هذين المنصبين سماحة الشيخ ناصر بن حمد الراشد ومعالي الأستاذ إبراهيم العنقري رحمهما الله ؛ فلعله كان يعجبهما لين الجانب إلا أن سماحة الشيخ ناصر تضايق لما كنت أوافق على كل من يريد النقل من إدارتي؛ فكان يرفض كل نقل بإطلاق .. كما أن عملي القيادي الأول كان بعيداً عن تخصصي ؛ فهو خدمات موظفين ومبانٍ ومدرِّسات وسيارات .. إلخ ، فكنت أمارسه تكليفاً لا عشقاً ، ولقد ذكرت في التباريح قصتي مع الصُّليع مندوب تعليم البنات بعنيزة رحمه الله ، فأول تسلُّمي منصب مدير الخدمات جاءني بعرض كنت رفعته لسماحة الشيخ ناصر وقَّع عليه عبارة ( للارتباط ) وأنا لا أعرف معنى الارتباط ، وأستحيي أن أسأل عنه ؛ فصرت سخياً بالحديث الفضولي مع الأستاذ الصليع لعل الله يفرج لي ببادرة تفسر لي معنى الارتباط ؛ فلما طال على الأستاذ الصليع الحديث قال لي : ( كلامك لا يُمَلُّ ، ولكن اسمح لي أرتبط بالمبلغ قبل نهاية الدوام ) ؛ فزال عني هم ، وأعطيته المعاملة، وقلت : ( لا مانع ) ثم لحقته قبل أن يزول عني شبحه حتى أدركته بإدارة المحاسبة ووقفت عنه قيد رمح أسمع وأرى ؛ فلما فرغ رآني فقال : ( ألست واثقاً بي هداك الله ؟!) .. فقلت : خجلت في نفسي أن أتركك تذهب وحدك .. وساعتها علمتُ معنى الارتباط ، وأنه حجز مبلغ كذا من البند المخصص ؛ كي يُعلم ما بقي في البند ، وما صرف منه .. ولما كنت أحسك على الأستاذ الصليع كان الوالد عمر رحمه الله عندي يريدني في حاجة ، وكان يتضجَّر ويتلوَّم من إسرافي في الحديث ، وقال لي بعد أن ذهب الصليع : ( يا كِثِرْ خَرْطِكْ وأنا أبوكْ ) ، وهو رحمه الله لا يعلم معاناتي .. ولما تمكن مني ظرف وزي الأدباء والظرفاء كرهت الوظيفة عموماً ؛ فتقاعدت مُبكِّراً ، وأما المنصب الديني فلم أفكر فيه ألبتة لو احتُمِل من المحال أن أحظى بمنصب ديني ؛ لأنه إما أن يقولبني شكلاً ومضموناً ( وهذا لا أريده ) ، وإما أن أفشل في المنصب .. ولا أنسى كلمة سماحة الشيخ ابن غصون رحمه الله تعالى آخر حياته عندما صليت معه العصر، ثم قبَّلتُ رأسه بعد النافلة ؛ فعرفني من نَفَسِي .. وعندما خرجنا من المسجد (وقد سلس الحديث ، وَوَقَذَه الورع)؛ فقال: (يا أبا عبد الرحمن: ما فيكْ شيء أغبطك عليه إلا أنك سلمتَ من القضاء !! ) . ليس له أثر قلت جانبا شيخنا الكريم ولكن هل للتمذهب علاقة بذلك؟ - أما التمذهب الذي ذكرتموه فلا أذكر له أثراً إلا مرتين من عمري : الأولى أن معالي الأستاذ أبا عصام عبد العزيز السالم طلب من صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز متعهما الله بالصحة والعافية بعد توليه وزارة الداخلية بعامين تقريباً أن أكون موظفاً بمكتب سموه؛ فاعتذر سموه بأن انتمائي لمذهب الظاهرية محرج ، وما فتح لي سموه صدره إلا بعد أن عرف حقيقة أمري .. والثانية أن معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي متعه الله بالصحة والعافية اقترح على سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله أن أكون باحثاً في الإفتاء .. ولم يأخذ معاليه رأيي مسبقاً ؛ لأنه لو حصلت الموافقة لن أوافق ؛ فلا أريد جَوّْا خَيِّراً يحجز حرية الظرفاء!!.. ولكن سماحته لم يوافق ، وعلمت بعد سنوات حيثيات الرفض ، وهي كتاباتي الفنية ، وتمذهبي ، ومسائل عارضت فيها مسائل لابن تيمية وابن قيم الجوزية ، وعارضتهما بعلمهما وما اكتسباه من علم الآخرين كالإمام ابن حزم رحمهم الله تعالى .. ولا أزال على عقيدة ببرهان لا يُفلج أن ما ترجَّح عندي من مذهب الأئمة الذين خالفهما ابن تيمية وابن قيم الجوزية هو الحق ، وما جعل الله لي بحكمه الشرعي أسوةً في علم أحد غير الشرع الذي هو من عند الله ، واتباع البرهان بعد حذقٍ لطرق الدلالة والتوثيق ؛ إذن الذين يشنأوني من المشايخ هم الأقل . مثل مَن ؟ تحدثت عن هذا فيما مضى من الأجوبة ، وفي التباريح كثيراً . وسوسة في الكتابة بعد مؤلفاتك الكثيرة في الجوانب الدينية والفكرية والفلسفية واللغوية والتاريخية والأدبية والفنية إلى أين سينتهي بك المشوار ؟! لا أدري ؛ فالعلم بالغيب عند الله وحده سبحانه، ولكنني أعهد الوسوسة العلمية في آخر حياتي تأثراً بشيخي عبد الفتاح أبوغدة رحمه الله تعالى في حَكِّه العلم ؛ فلا أتعدى كلمة واحدة دون أن أغربلها وأحكَّها ، ولا يمر عليَّ سطر واحد إلا وقد أخليته بالإضافة والتشذيب والتهذيب من أي مسامحة علمية أو فكرية ، وصرت لا أعتمد على الذاكرة ؛ إيمانا مني أن من لم يراجع فالأصل فيه أنه واهِمٌ ، وقد ظهر لي كثير من التباين بين ما هو في الذاكرة وبين ما هو بعد المراجعة .. وكانت لي مقالاتٌ وبحوث غَصَّت بها الأضابير كتبتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً ( والثلاثون عاماً لازمة في حياتي ، ولكل طالب علم لازِمة ) ، وهي في الرؤية الأولى تامة المقصد ، وافية بالغرض ؛ فلما حككتها لحديث الشهر وغيره سخوتُ بسطور كثيرة شطبتها ، ورصَّعتُ في السِّمط درراً أحدثت لي نشوة !. بدون مجاملة وكيف يقرأ شيخنا الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا باختصار ؟ - بدون مجاملة فلي سنين كثيرة وأنا منعزل عن الصحافة ، وأنا منعزل عن التلفاز ووسائل الإعلام إلا ما أعلم مسبقاً موعد نشره ، وما ينقله لي الأحباب ، أو أسمعه في غير بيتي .. ولكن أيام متابعتي للحركة الأدبية وجدت أدباء تراثيين في قمتهم حسين سرحان وعبد الله ابن خميس ، ووجدت أدباء حداثيين أحسنوا التقليد لأساطين الحداثة ولكنك لا تجد لهم ولا للتراثيين بصمة يتميَّز بها الأدب السعودي ؛ فتجعله مدرسة .. بينما في البلدان الأخرى تميَّز الأدب ببصماته ؛ فتقولُ نشأت الرومانسية في مصر، ونشأ الشعر الصوفي الملتحم بالرومانسية في المهجر ، والأدب الحداثي بدأ من العراق .. وهكذا نحن تقليديون وإن كنا تراثيين ، وتقليديون إن كنا حداثيين . صراحة مؤلمة عفوا شيخنا أريد مصارحة أكثر في هذا الجانب. - إن أردتَ صراحة مؤلمة فإليك البيان : كان الشعر عندنا هو نظم ابن شرف وابن سحمان ، ومن يأخذ دكتوراه في أحدهما أو في مثلهما لا أدري كيف سيكون رائداً علمياً وفكرياً ، ثم نجم ابن عثيمين فسما قدرنا الأدبي نوعاً ما ، وإن كنا في مغطس النقل من غريب القاموس المحيط ، وسبق القافية للمعنى ، والاجترار من عسير التراث الشعري .. وفي هذه الأثناء سُبقنا بمثل محمود سامي البارودي ؛ لأنه لم يُحْيي ديباجة الشعر عند الأعشى ولبيد في جاهليته رضي الله عنه ، بل أحيا هذا وأحيا ديباجة الشعر العباسي والشعر في الأندلس وصقلية وكل قطر فيه النوافير والزنابق وما يقطر بضاضة .. ثم في وقت متأخر ظهر مثل حسين سرحان وابن خميس مقلدين للتراث ، ومثل محمد حسن عواد محاولين التجاوب مع جيل مجلة الرسالة .. ولكن العجيب مدة قصيرة في مصر مثلاً أغدقت أمتع المتغيرات .. تألق أحمد شوقي بتجديده الأغلبي في المضمون ، وتألق بعده خليل مطران في لبنان ، وتألق بين إحياء البارودي وتجديد شوقي الرصافي والخوري والأخطل الصغير ، وأما الزهاوي فقد كان تجديده في المضمون وهو غير جذاب أداءً ، وتجديده مثل تجديد أبي العلاء ؛ إذ تمسك بغشاوة من محالات الفكر .. وظهرت بداية الرومانسية في مدرسة الديوان ، ثم اختفت سريعاً ؛ لسوء وجفاف العطاء النقدي لهذه المدرسة عند العقاد -وهو جاف النثر والشعر، وله من اسمه نصيب- ، ثم عند سيد قطب وإن كان جميل الإيقاع ؛ إذ سمى نقده ونقد شيخه العقاد المدرسة النفسية .. واختفى مع مدرسة الديوان سريعاً من جهة النثر الفني مدرسة الأمناء البلاغية البحتة التي برز فيها أمين الخولي وزوجه بنت الشاطئ ، وفي نصاب هذه المدرسة عطاء الرافعي شعراً ونثراً ، ولقد قضى عليه إيقاع طه حسن ومن بعده .. ثم جاءت المدرسة الرومانسية بكل ألقها وهي من أكبر نعم الله الأدبية ، ولا يزال طعمها في ريقي .. عشقتها شعراً عند مثل ناجي والمهندس ، وعشقتها نثراً عند مثل دريني خشبة وبعض إيقاع الزيات .. وعشقتها خواجية مترجمة عند بلزاك .. ومهَّد للرومانسية المدرسة الديوانية شعراً، وشعراً ونثراً ما ينشره الزيات في رسالته ، وإيقاع الزيات مزيج من بلاغة التراث والإطراب الرومانسي.. وبعد أعمارٍ وُجد عندنا طفرة أفراد أقل من أصابع اليد اليمنى أحدثوا لنا أسلوباً ومضموناً في إطار الرومانسية مثل غازي القصيبي وقد جاءنا من البحرين مكتمل الأداة ، وكان مضموناً منه التجديد وإحياء مدرسة أدبية ، ولكن ابتلعته السياسة والوظيفة ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون .. مدرسة المهجر وكان يتعاطف مع الرومانسية مدرسة المهجر ويكمِّل بعضهما بعضاً ، وبعد اكتمال نمو الرومانسية ظهرت الرمزية باهتة عند سعيد عَقْل، وتتلمذ لها نزار قباني ، ثم بجد فيها بجداً الحداثةُ التي بدأها السياب بتوظيف الأسطورة ، ثم البياتي في استرحال المدرسة الخواجية الطبيعية التصويرية .. وبعد أن اكتملت الحداثة بإبداعها وعفنها وعدائها (وكنا جديرين باصطفاء ميزتها) نجم عندنا منذ أكثر من عقدين أمثال الثبيتي والحربي ، وأما الصيخان هداه الله فقد اضمحلَّ ، وأما الدميني المسكين فقد حَمَّلوه ما لا يحتمل .. وكانوا قمينين بإنشاء مدرسة حداثية سعودية غذاؤها العطاء الجمالي والفكري والثقافي ؛ فما وجدنا غير فوعة تقليد للحداثيين ثم إخلاداً للصمت .. ولعلهم معذورون ؛ لأن الأدب ابتلَّ جناحاه منذ نكسة حزيران 1967 م ، ومنذ شاعر المليون وفضائيات الغثاء العامي ، مع عامل آخر باطني يوحي بأن الحداثة لا ترحِّب بالتفاعل مع بلاط ولاة الأمر ؛ لهذا خلا الميدان للنظم الفصيح وغثاء الشعر العامي . مدرسة حمد الجاسر ثم ماذا؟ - عندنا الشيخ حمد الجاسر رحمه الله مدرسة ، ولكن لست أعني مدرسة التخصص الجاسري ؛ وإنما أريد مدرسة الفكر والأدب والجمال ؛ فطه حسين مدرسة ، والزيات مدرسة، وأمير الشعراء مدرسة ، وناجي مدرسة، وكامل الشناوي مدرسة ، ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي مدرستان .. اللهم فاشهد أنه ليس عندنا في السعودية أي مدرسة مجموعة في فرد كتلك المدارس إلا أن تكون ( أوحشتنا يا حبيب عساك طيب ) مدرسة ، أو يكون مشعان بن مجول مدرسة ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى . الشعور بالتقصير يعتب عليك قِلَّة ما تنشره في الصحف السعودية مما أضاع على كثير من محبيك تفهُّم إنتاجك في مسائل الأدب وشؤونه .. ألا ترى أنك قصَّرت في هذا الجانب ؟ - أشعر بالتقصير ، ولكن الناس لا يعرفون ظروفي .. ينتابني اعتلال كبير في الصحة ، ويذهب أكثر وقتي نوماً .. ثم إني كثير الأسفار خارج المملكة سفراً ضرورياً ، وكثير الأسفار داخل المملكة سفراً ضرورياً ، والآن سأتحلل من تلك الأسفار إن شاء الله .. وإذا جلست على مكتبي فأنا نَهْبٌ موزع بين مجلة الدرعية ومكتبة ودار ابن حزم وبين مؤلفاتي بإملاء مقالة أو بحث ( والإملاء أسهل عليَّ ) على الرغم من أنني أصارع هذا التيار ، وأوزع وقتي ، وأمشي على مهل ، وعلي حق للأهل والولد والصديق وعامة المسلمين .. ولكنني أستمخُّ فكري ، وأنتقي علمي خلال شهر أو شهرين أو أكثر ثم أطلع على الجمهور في جريدة الجزيرة غالباً بعطاء يقوم مقام المشاركة ثلاثة أشهر ، ولكنه أكثر كمّاً، وأمتع كيفاً ، ثم تنفَّستُ بحديث الشهر مطلع كل شهر . أهل الحداثة على سيرة الحداثة لك جانب يحمده لك الحداثيون حينما قلت في حوار سابق (وأزدري فكرةَ تجريدِ الأدب الحداثي من القيم الجمالية والفكرية) .. ألا ترى معي أن بعض الحداثيين أو أكثرهم أساءوا إساءات كبيرة إلى الأمة والتراث ؟ هناك حداثة أدبية من جهة الشكل ، وهناك حداثة فكرية تشمل مضمون الشعر والأجناس الأدبية بل والفنية ؛ فالحداثة الأدبية في الشكل ضرورية ما حقَّقت جمالاً ولم تمسَّ الثوابت.. والموسيقى الخارجية شحيحة في تراثنا ؛ لأنها قائمة على الألحان العربية المحصورة ، وموسيقى الوجود أوسع من ذلك ، وقد قَبِلْنا تجديد الشعر العامي في أوزان الألحان ؛ فلماذا لا نقبل تجديد الحداثة في هذا الغرض نفسه ؟ .. وقد ضاق عطننا لا بالمفردة اللغوية وحسب ، بل بالمأثور الأدبي الذي هو ليس نقلاً بحتاً ، فسئمنا من : فلان بحر ، أو أسد ، أو جمل محامل ، أو طويل النجاد ، كثير الرماد .. إلخ ، وأحضر لنا الأديب الحداثي تعبير الرمز ، وتعبير الصورة ، وتعبير الاقتران في المكان والزمان ؛ فتفجرت لنا الأسطر التي شبههوها ببعر الكبش بمعين من الدلالة ليست في رصَّات البحر الخليلي (سلة البيض المتساوية ، فإن تهشَّم تلوث كل شيء، وبعر الكبش أمنع من الانكسار) .. حداثة الفكر أما حداثة الفكر وتشمل أمور الدين والكيان فلا تُقبل بتعليل جمالي ؛ لأن شرط الجمال الجلال والكمال ، ولا نخافها لأنه مطلوب منا المواجهة بأداة علمية وفكرية ، وبنزاهة خلق؛ فلا نأخذ إلا ما قام لنا البرهان على أنه حق بيقين أو رجحان، ولا نردُّ إلا ما أقام اليقينُ أو الرجحانُ البرهانَ على أنه باطل أو شر أو قبيح.. وعندنا في التراث ظاهرة أدبية غير مؤصَّلة ، وهي الدلالة النفسية في تراسل الحواس كتشبيه المرئيِّ بالمسموع، وفي هذا إثراء للدلالة؛ فلماذا لا نقبلها من الحداثي تأصيلاً ونموذجاً إبداعياً؟!. أخذ الميزة كيف تنظر إلى المشهد القائم الآن ، وهل أنت مع الحداثة أو ضدها ؟ أنا مع الحداثة من التُّخُوم بشرط أخذ الميزة ، واستبعاد التخثُّر التراثي ، والاهتزاز الرجولي أمام كيدِ مسترحلي الحداثة الأدبية من المليين والنحليين والطائفيين أهل الثقوب الذين يُكنُّون لنا أحرَّ العِداء .. وأما المشهد الأدبي القائم الآن فلا يسرُّ ؛ لأنه إما صمت واحتجاج ، وإنما نظم يتعلق من الشعر العمودي بسبب ، وإما غثاء عامي مثل ( واللي ما يَبانا ما نَباه !! )) . أنت تعصرني ولكن كثيراً من المهتمين بالنقد الأدبي والفكري يرون الحداثة أداة هدم ؛ فأريد رأيك في الواقع النقدي ؟ اسمع أيها الساري : ليس في مَعْلُولةٍ لبَنٌ، وأنت تعصرني بالحداثة عصراً ؛ فخذ ما عندي جملة وتفصيلاً : نحن بحاجة إلى الحداثة بإطلاق غير تخصيص بالحداثة الأدبية ، ولكنَّ هذه الحاجة الماسة محكومة بمعايير الوجود الثلاثة ( الحق من الفكر الرياضي ، والخير من التجربة النافعة ، والجمال من الإحساس السويِّ المرهف المثقَّف ) ؛ فكتاب الحيوان للجاحظ تراث نعتزُّ به ؛ فإذا وجدنا من العلم الحسي في الأحياء والتشريح ما يرفض أدبيات الجاحظ جعلناها أساطير للمفاكهة .. ونحن بمنطق التجديد محتاجون إلى العطاء التاريخي العالمي ؛ فإذا قالوا : ( أصل الإنسان قرد ) ، وقال صاحب ( السوبرمان ) : ( التاريخ في سُلَّم تصاعدي ) ، ووجدنا دارس آثار بعْل وأهرام الفراعنة لا يذكر إلياس وموسى عليهما السلام: أبينا ذلك بمنطق الحق ؛ لأن التاريخ ليس في سلم تصاعدي دائماً؛ فالبدائيون موجودون في عصرنا اليوم، وذوو الحضارة الدنيوية ، وذوو المثالية ديناً وخلقاً موجودون في عهد إبراهيم الخليل وموسى الكليم عليهما السلام مع ضُّلال قومهما، وآدم عليه السلام خلقه ربه بيده وربّْاه بشرعه ؛ فلا قردية ولا همجية ، بل بدأت البشرية سوية.. وصوت العلم الحديث الجهوري يقول: (إن المتحجِّرات مُزيَّفة ، والعظام البشرية القردية ملفَّقة ، وآلة تقدير الأعمار لا تتجاوز ثلاثة آلاف سنة، وهي ظنية) ، ووجود إبراهيم وموسى عليهما السلام الفعال أظهر من وجود بعل الذي بعث الله لعبُّاده إلياسَ عليه السلام ، وأظهر من الأهرام التي هي من آثار الهالكين بسبيل مقيم ، وأثرُ موسى عليه السلام دين يُقرأ وليس جماداً يُستنبط منه بالظنون .. ورحلة ابن بطوطة تراث نعتز به ، فإذا وجدنا خيالا يرفضه علم الجغرافيا والبلدانيات والأطالس واكتشاف القارات التي حُدِّدت بالسنتي جعلنا خيالات ابن بطوطة للسمر والمفاكهة .. والعقد الاجتماعي، والتِّنين ، ورسالة اللاهوت ، والحق الطبيعي، والحق القانوني : كل ذلك معارف حديثة نحن ملزمون بتمعُّنها؛ لأن الحق ضالة المؤمن ، ولأن العالَم أُرغم عليها بحروب مُبيرة أهلكت المتدينين ؛ فلما درسنا مأثورنا ومأثور العالم عن ضرورة تربية المصلحين ، وأن لكل حق سيفاً يحميه ، وأن الفساد بالتجربة البشرية لم ينتشر في الأرض مع وجود العقوبة المقنَّنة الرادعة : انصرف فكرنا إلى العقد الاجتماعي وإخوانه بالفحص والسبر ، وتتبع حِيل أعداء البشرية في التضليل .. هذا ما ينبغي أن يكون عليه النقد لكل مضمونِ حداثةٍ بإطلاق ، وأما الحداثة الأدبية فلا مقياس لها شكلاً إلا بقيمة الجمال والسلامة من هدم الثوابت ، وأما المضمون فحكمه حكم ما مضى عن عموم الحداثة .. وتعرَّض للهدم في اللغة ، وهدم دلالة النصوص ولا سيما المقدسة عبثُ البنيوية ومشتقاتها ؛ فَيُقال لكل من انتفخ شدقه انبهاراً ، وحمل رزمة كتب في وسائل الإعلام ليشرح البنيوية : على رسلك !!.. لا تكن هذه الهرطقة عندك كصاحبة شوقي : ( خدعوها بقولهم حسناء !! ). ليس فيها جمال والبنيوية وكل مشتقاتها ليس فيها جمال أدبي إلا الإبداع في القراءة المعاصرة لنص قديم مع التحرج من الافتراء على نص مقدَّس كما يفعل أقزام التثقيف الجنوني في تفسير القرآن الكريم بوسائل سيميائية ليست مشروعة عند التنزيل، ولم يُحِلِ الله إليها في فهم كلامه ، ولا يُفسَّر بها مراد متكلم إلا بعد معرفته بدلالتها، وليست كل قراءة معاصرة تكون تأويلية سيميائية كما يفعل المخبولون في دلالة فضاءات النص ، وقد توارثوا التمثيل بكلام الغزال عن رحلته ، وبمقامة من مقامات الحريري . والحوار معهم من ناحية الجمال الأدبي حوار وُدِّي يُبَيَّنُ لهم برفقٍ أن ما بهروا به من فضول البنيوية وتحصيل الحاصل عبث أطفال.. والحوار عن الجوانب العدوانية في البنيوية ومشتقاتها حوار ( خصام ونقد ) ؛ لأن السجال الفكري العدواني يثير المشاعر فيحصل الخصام.. ويقال لهم : ليس كل قراءة معاصرة تأويل سيميائي كفضاءات النص ، بل هي ثلاثة أنحاء: ثلاثة أنحاء النحو الأول : قراءة سيميائية تأويلية حقيقة ، وهذه إن قُبِلت جمالياً في نص غير مقدس ؛ من أجل إبداع قراءة معاصرة فيجب إبلاغ الناس أن صاحب النص بريء من تلك القراءة ، ودلالة القراءة المعاصرة بالنسبة لإرادة صاحب النص حكمها أنها محالة . والنحو الثاني : قراءة تردُّ إشارات في النص إلى معهود من أحوال المخاطبين بالنص والمتلقين له كقراءة طه حسين في كتابه عن المتنبي لقصيدته : (وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه)، وحكم القراءة المعاصرة هنا أنها مُحتملة برجحان ، وهي دلالة عامة إضافية مغفول عنها لا تعارض دلالة كل كلمة وجملة في القصيدة . والنحو الثالث : قراءات من فضاءات النص، وقد سماها الأغبياء تأويلاً ، وما هي بتأويل بدلالة أي عرف اصطلاحي ؛ لأن التأويل يزيح دلالة النص ومراد المتكلم .. وفضاء النص صمت وفراغ ، وليس نصّاً ناطقاًَ ؛ وإنما الاستنباط من حال صاحب النص ، أو من النص ، أو من القرائن؛ من أجل الإجابة على التساؤل الذي يُثيره فراغ النص : كل ذلك احتمال مرسل والاحتمال المرسل لا قيمة له ؛ فمن الاحتمال المرسل أن يوقفك رجل المرور ويقول لك : ( هذه السيارة التي معك يُحتمل أنها مسروقة ) ، وليس عنده دلالة ولا شُبهةٌ ، وليس عندك تهمة ؛ فهي احتمال مرسل تصوراً ، باطل حكماً . • في المسجد وبَّخني شيخي بسبب إلقائي برنامجاً وأنا طالب أُسامِرُ قصيدة!! • أعهد الوسوسة العلمية فلا أتعدى كلمة واحدة دون أن أغربلها ولا يمر عليَّ سطر إلا وقد أخليته بالإضافة والتشذيب!! • الرومانسية من أكبر نعم الله ولا يزال طعمها في ريقي عشقتها شعراً و نثراً وخواجية مترجمة!! • لدينا أقل من أصابع اليد اليمنى أحدثوا لنا أسلوباً ومضموناً مثل غازي القصيبي ولكن ابتلعته السياسة والوظيفة !! • أنا مع الحداثة بشرط استبعاد التخثُّر التراثي والاهتزاز الرجولي أمام كيدِ مسترحليها!! كنت في يوم من الأيام رئيس نادي الرياض الأدبي ، كيف تراه بعد هذه السنوات ؟ حتى النادي الأدبي أنا منقطع عنه ، وما زرته إلا يوم كرموني . هل استقلت من النادي أم أُقلت منه ؟ أول من رُشح للنادي الأدبي رئيساً الشيخ عبد الله ابن خميس تعييناً ، ففتح النادي ولم يباشره ، وقُفل النادي ولم يباشره ، وكنت عضواً معه ، ولم نشتغل في النادي يوماً واحداً . متى كان ذلك ؟ في حدود عام 1388 ه أو قبله .. بعد ذلك أعيد النادي انتخاباً بالتصويت ؛ فعُيِّنت انتخاباً ، ثم كنت أول رئيس للنادي الأدبي يباشر مهمته . استقلت من رئاسة النادي ؛ أو أُقلت ؟ هداك الله تركِّز على ( أُقلت ) ، وماذا يضيرني لو أُقلت ورجمت بحصيات.. إن عندي مساحة من قناعتي بما أنا عليه تديُّناً وخلقاً وثقافة ؟!.. المهم أنها شبه إقالة ، وقد ذكرت ذلك في التباريح ، وتلك قصة يطول شرحها بالتفصيل . ما هو مجملها ؟ أردت إعطاء النادي استقلاليته عن أي جهة أخرى وهذا هو السبب ، وهي مشروحة في التباريح مع معالي الشيخ إبراهيم العنقري رحمه الله تعالى ، والوسيلة إلى هذا السبب أنني بسطت يدي للحداثيين ، وهذا حق لهم ، وهو في اجتهادي مصلحة عامة .. إضافة إلى تمسكي بعشرة آلاف متر حصلت عليها منحة للنادي ، ولا أريد شيئاً منها لغير النادي ، ومع الشدِّ والجذب تركتها للدولة في عهد معالي الأستاذ عبدالله العلي النعيم . لقد عجزت لم لا تتعامل مع الأندية الأدبية ..ألعدم اهتمامك بها؟ ليس لعدم اهتمام ، ولكني عجزت . من خلال ما يُنقل إليك هل ترى أن هناك إيجابيات في الأندية الأدبية السعودية ، أو أنها على حالها ؟ - الشيء الذي لاحظته على نادي جدة في عهد أبو مدين أنه يُصدر مطبوعات ولا سيما المترجم منها ، وهذا أثلج صدري ؛ لأننا أسهمنا إسهاماً عظيماً في نشر التراث والتأليف المكرَّر (أي التراكم الثقافي) وليس لنا يدٌ في الترجمة ؛ ولأنني ضد من يقول : ( مهمة أي ناد نشاط منبري) ، وهذا ثانوي عندي ؛ إذن في عهد عبدالفتاح أبو مدين كانت هناك بادرة طيبة للنادي الأدبي في جدة وإن كان يغلب عليها الجانب الحداثي .