السخرية أسلوب أدبي يذهب إلى الأشياء بطريقة المواربة وفيها كثير من الفن اللاذع الذي يثير الدهشة وأحياناً الضحك، وفي أكثر الأوقات الحزن ويحاول بكل ما يملكه من براعة وقوة محاربة الظواهر السلبية والأخطاء المعششة في المجتمع. فالكتابة الساخرة تحتاج إلى مصارحة الذات أولا قبل مصارحة المجتمع وتعمد إلى تكسير جميع الحواجز اللغوية والأدبية لتكون الرسالة أقوى من طلقات الرصاص.. في ساحة الوغى من أجل أن يتغير العقل وما وعى.. وشر البلية ما يضحك.!!! إن الأدب الساخر كوميديا سوداء تعكس أوجاع المواطن السياسية والاجتماعية ويقدمها بقالب ساخر يرسم البسمة على الوجه ويضع خنجرا في القلب ويشتمل هذا الأدب على كافة أنواع الإبداع الأدبي الذي يطرح موضوعاته بسخرية والكاتب الساخر هو من يحول الألم إلى بسمة والحزن إلى إبداع. ولابد لنا أن نوضح أيضا أن الأدب الساخر ليس هجاء بينما الهجاء هو من قلب الأدب الساخر فالهجاء خارج القالب الأدبي هو تهجم دونما هدف.. في حين يمكن للكتابة الساخرة أن تتضمن الهجاء.. الكتابة الساخرة تعني التمرد على الواقع.. وثورة فكرية ضد البديهيات التقليدية.. كانت سياسة أم اجتماعية...!! وهي العكاز الذي يتكئ عليه الكاتب الحر.. ليقوم اعوجاجاً في أعماق نفسه. وتعرف الكتابة الساخرة باختصار شديد أنها.. «تعكس صورة الواقع بجماله وقبحه.. ولكن بأسلوب مختلف عن الكتابة العادية»... في حين أن علماء النفس يعرفون السخرية «سلاح ذاتي يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق.. إذ إن السخرية رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة.. إلا أنها تخفي خلفها أنهاراً من الدموع.. إنها مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي» يعلق البعض «بأن الكتابة الساخرة.. ولدت مع أول عربي!» تأصيلاً منه للمثل القائل.. شر البلية.. ما يضحك...»! وحول ماهية الأدب الساخر نرى أنه الخلطة السرية بين اللغة والمفردة والحكاية الشعبية واصطياد المفارقة في المشهد سواء كان هذا الأدب نكتة شفوية، أو كاريكاتير، أو قصّة ساخرة أو نصاً ساخرا.ً كما أن النص الساخر يجب أن يكون بياناً سريّاً بين الكاتب والقارئ، بين الهمّ والضحكة، بين الوجع وصاحبه، بين القلم والممحاة كرسائل العشّاق سرية وخجولة وبينية، يكون البوح الهادئ فيها بين حمرة الجرح وحمرة الشفاه، بين الحرف والحرف، بين الغرّة والشال.. فالسخرية قهوة الكادحين... والضحك دخانهم المجاني. ونود أن نركز على أهمية القراءة الساخرة كونها الشفة السفلى للكتابة الساخرة.. فإذا كانت الكتابة الساخرة هي هلال التنصيص الأول فإن القراءة هي هلال التنصيص الثاني.. بدون القراءة الصحيحة يبقى الوصف مفتوحاً والاستعارة غير واضحة، فلا بد من القراءة الساخرة حتى نغلق القوسين على ضحكتنا المستعارة... كما أن الأدب الساخر بحد ذاته يعبر عن حالة رفض للواقع ولكن بشكل قادر على التعبير دون الاصطدام أو خلق حالة مواجهة مباشرة مع حالة سلطة لذا كان الأدب الساخر يعبر عن كل ما سبق بمختلف العصور ويمكن اعتبار أدب الصعاليك شكلا من أشكال الأدب الساخر على سلطة القبيلة في الأدب الجاهلي وفي عصور لاحقة ظهر العيار والشطار وكان أحد أهم أسلحتهم السخرية. في البداية يحدثنا الناقد والأكاديمي محمد البودي فيقول: الكتابة الساخرة لا تزال تحتل مساحة ضئيلة في كتاباتنا المحلية على مستوى الصحف والمجلات وهذا يعود لقلة هذا النوع من الكتابة التي تحتاج إلى كاتب من طراز معين يستطيع أن يوظف قلمه بشكل جيد وساخر دون أن يقع في المحظور الاجتماعي والسياسي والديني، وبالتالي وجدت كتابات في الوقت الراهن وهناك من لديهم محاولات بأن تكون كتاباتهم ساخرة، لكنها لم تصل إلى المستوى الذي وصل إليه كتاب لبنان أو مصر أو الأردن. ويضيف البودي، هناك اجتهادات لدى بعض الكتاب لدينا بالمملكة ومنهم الأستاذ تركي الدخيل الذي بدأ يضمخ كتاباته بالأسلوب الساخر، وكذلك محمد السحيمي الذي يحرص على هذا الاتجاه، وهناك كتاب يزاوجون بين الكتابة الجدية والساخرة ثم نجد مقالات قليلة تتوشح بالكتابة الساخرة. ويشير الأستاذ محمد إلى أن الكاتب بهذا المجال يجب أن لا يكون كاتب عادي بل بمرحلة متقدمة من الكتابة ولون خاص يحتاج إلى درجة من المعرفة وامتلاك اللغة ويكون أقرب للأديب منه إلى الكاتب. ويؤكد البودي أن الكاتب الساخر أوفر حظا لدى الجمهور أكثر من أولئك الذين تصيبهم المقالات بالصميم والمعنيين بهذه الكتابة، وهي بالأخير موهبة وقدرات ثم اكتساب وتمرن خاصة لمن يمرن ذائقته وقلمه وقراءاته في الكتابات السابقة مثل كتب التراث وفهم اللغة والتورية والاستفادة منها، وهذا مالم يصل له إلا الأديب المتمرس القريب من مداخل اللغة. أما الأديب والقاص ناصر الجاسم فيقول: الأدب الساخر قديما قدم الكتابة نفسها، وقديما قدم الخطابة، بما لا نكاد نجزم أن السخرية كفن قولي بدأت مع بدء الكلام، ولم تكن كفن إبداعي وضعت أركانه وأسسه على يد مبدع واحد، أنما تكونت عناصره وأركانه بشكل تراكمي وتراتبي عبر امتداد العصور الشفهي والكتابي، وقد أخذ بالنسبة لنا كعرب حيزا مهما خاصة من الأدباء في العصر العباسي. والسخرية فن مائي يتسرب إلى فنون القول كلها فنجد كاتب المقال الساخر والقصة الساخرة وكذلك الرواية والقصيدة، وأعظم مانجد الروائي الساخر صاحب النفس الكبير في السخرية والتهكم على الواقع بشكل مميز ومحبب لدى المتلقي. ولكن مقارنة بالكاتب المسرحي فهو أي المسرحي صاحب بيئة أوفر إذ إن السخرية فن مسرحي بالدرجة الأولى وبيئة المسرحي أخصب بيئة. وبالنسبة للمملكة فلم يحظ هذا الفن للتطور المأمول لأن الأدب لدينا محكوم عليه بسيف القضاء أو خوف الأديب من استخدام هذا الفن أو المعالجة باللغة الساخرة ليدرأ عن نفسه المحاكمة القضائية، ولذلك استخدم هذا الفن في أدنى درجاته الإبداعية. ويضيف الجاسم: ليس للكاتب الساخر أدوات عديدة أكثر من قدرته على إضحاك الآخرين من الظاهرة التي تتم السخرية منها أو من الخصم الأدبي المتوجه إليه السخرية، فامتلاك الضحك لا يتاح إلا لمن له قدرة أدبية عالية، وتلك القدرة تتأتى موهبة أو بالفطرة وقد تكون اكتسابا. ويضيف بأن السخرية المكتوبة أكثر علاجا وأجدى أذا أنها تصبح مرجعا يرجع إليه وتحظى بالديمومة والخلود، أما السخرية الشفاهية إذا جاءت عبر الإنسان الرياضي أو السياسي أو عبر شاشات التلفزة فإنها تحظى بديمومة زمنية قصيرة ولكنها تنال فضاء أوسع بالانتشار وعرضه للإنسان أمام وحش الزمن. ويتحدث إلينا الناقد عبدالله آل ملحم فيقول: الكتابة الساخرة ضرب من النقد وهي في الغالب نوعان: كتابة ذاتية تجيء شعرا أو نثرا ضمن نقد الذات والسخرية منها، كما لدى جعفر عباس من المُحدثين، وأبي دلامة من الأقدمين، وهذا النوع أكثر ما يرى لدى الشعوب المُعرقة في الحضارة، وهو نادر في أساليب السعوديين، وإن بدت مقاربته على استحياء لدى غازي القصيبي ومشعل السديري وعبدالله الشباط وعلي العمير وغيرهم، وهذا النوع من الكتابة الساخرة هو الأصعب لكونه يتطلب لياقة نفسية عالية تفوق جلد الذات إلى التهكم بها، والنوع الآخر كتابة نقدية، والسخرية تجيء في تضاعيفها ضمنا لا قصدا، وكتاب هذا النوع هم الأكثر في مشهدنا الثقافي، كأبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري، وحسن بن فهد الهويمل، وعبدالعزيز السويد وغيرهم، والكاتب الساخر غالبا ما يكون مسخوطا عليه، لاسيما في المشاهد الأكثر ضيقا بالنقد كما في مشهدنا المحلي، حيث النقد الاحتفائي المجامل لا المحاكم للنصوص، وبالطبع فمجتمع قريب عهد بالحضارة كمجتمعنا لا يتقبل الكتابة الساخرة بكل تجلياتها في نقد الذات والزوج والولد والجار والزميل والصديق كما لدى كتاب المقالة الساخرة، وهذا طبعا لا يبرر تلاشي السخرية من النقد في ظل وجود طرح متهافت يسخر بوعي وثقافة القارئ المستهدف بكتابات هشة هي أحوج ما تكون إلى مبضع الناقد لا مراهمه. ويضيف آل ملحم:الكتابة الساخرة كتابة نقدية ولكنها باتجاه واحد بحيث لا تقبل المناوبة، أي أن كل كاتب ساخر هو ناقد بالطبع، ولكن ليس بالضرورة أن كل ناقد هو كاتب ساخر. وعليه فالكتابة الساخرة موهبة متراكبة إلى جانب موهبة النقد، وهي تختلف عن السخرية الشفهية من وجهين: فهي وإن صيغت في نص ساخر إلا أن السخرية لا تعني العبثية، وحضورها وإن بدا كاريكاتوريا لاذعا إلا أنه لا يعفيها من الالتزام الأخلاقي بأدبيات الكلمة المسئولة، ولا تناقض هنا لأن السخرية بالذات خارج التصنيف، فالكاتب الساخر حر في إسقاط حق نفسه في التصون، وكذا من يعلم موافقتهم الضمنية على تناولهم بقفشاته، ولكنه لا يملك ذات القدر من الحرية في السخرية بغيره إلا في حالات معينة، أولها: أن تكون سخريته في مقابل سخرية غيره به من باب المعاملة بالمثل كما في مواجهة الغذامي والعلي الأخيرة، مع الأخذ في الاعتبار أن الغذامي كان ساخرا لاستعماله الكناية أما العلي فكان شاتما لمباشرة سبابه، وثانيها: حين يكون المستهدف بالنقد هو من سخر بقرائه من خلال سخريته بوعيهم وفكرهم وثقافتهم وهو ما نراه بوضوح في كثير من الكتابات المتهافتة، وثالثها: حين تكون السخرية بالفعل والسلوك الخاطئين دون ذكر أسماء. وما لم يتحرر مشهدنا الثقافي من الارتهان للمجاملة والنفاق الثقافي وتحميل كل فعل كتابي وزر الحسابات الشخصية فلن يتنفس هذه الكاريزما الجميلة التي تستنشقها المشاهد الأخرى بعمق حرمنا منه كما حرمت الصحراء رائحة اليود الجميلة. ويرأ الناقد والأديب محمد البشير: بأن الكتابة الساخرة في السعودية لم تبلغ مبلغها مقارنة بالوطن العربي، والأمر ينسحب على الكتابة الساخرة العربية، فهي لا تكاد تقارن بالمنتج العالمي، وذلك يعود لأمرين: أولهما: طبيعة الشعب السعودي مقارنة بالشعوب العربية، فالطرفة بين الشعب السعودي لا تقارن بالشعوب العربية، وهذا ما يسم السعودي بالجدية مقارنة بغيره، فهو لا يستسيغ السخرية علانية بينما يتعاطها سراً. ولأن الكتابة علانية، فهي أدنى ثقافيا بين أقرانها من فنون الأدب، فالكاتب الجاد مقدم على غيره، وهذا لا يعني إطلاقاً الإعراض عن الكتابة الساخرة، فنحن شعب المتناقضات، فالكتابة الساخرة أكثر إقبالاً من القراء، ومع ذلك لم يسوغ لها أن تُقدم في المحافل. والأمر الثاني الذي يعتبر عماد الكتابة الساخرة. ألا وهو: (الحرية) فالكتابة الساخرة بحاجة إلى سقف عالٍ من الحرية، وهذا ما يفتقده الوطن العربي عموما والسعودي خصوصاً، وهذا ما يجعل الكتابة الساخرة متأخرة، فالرقيب الذاتي عند الكاتب يمنعه - قبل الرقيب - من الاسترسال في السخرية والجلد ولو بدعابة!.وعن مستقبل الكتابة الساخرة يقول البشير: مستقبل الكتابة الساخرة مزدهر، فلقد أخذت مكانها في الأعمدة الصحفية، والجرأة ارتفعت نسبياً بين الكتاب عموماً، فبنظرة سريعة للأعمدة الصحفية يجد المتابع ازدياد عدد الكتاب الساخرين، وهذا يتوافق مع إذعان المطبوعات لرغبة القارئ، فالأعمدة الساخرة أكثر إقبالاً من غيرها لدغدغتها لهموم الناس ورفع سأمهم. بل تجاوز الأمر ذلك للترويج إلكترونياً لكل مقال ساخر يرى فيه القارئ تسرية لهم الناس وسط الأزمات المالية والاقتصادية والخدمية والكثير من الخيبات. ويضيف البشير من جانب الحظوة الجماهيرية فالكاتب الساخر أكثر حظا، وذلك يقاس بإقبال القارئ إلى عموده والترويج لما يكتبه - كما ذكرنا -، فالمقال الساخر شأنه شأن (الكاريكتير)! فمتصفح الجريدة لا يتجاوز الكاريكاتير وكذلك المقال الساخر، وذلك لموقع المقال الساخر من نفس المواطن، فهو يعبِّرُ عما يجيش في صدره، وينفس عنه بدعابة، والضحك وسيلة من وسائل تفريج الحزن، والضحك فوق قمة المأساة تفتيتاً لجبلها. وهي أصعب الكتابة على الإطلاق، فمن السهل أن تبكي الناس، ولكن من الصعب أن تضحكهم، فالكاتب الساخر أمام منزلق خطير، فإما أن يضحكوا معه أو يضحكوا منه! فالكاتب الساخر لا بد له أن يمسك بأدواته كسيطرة المهرج على كراته بكفه دون أن تسقط واحدة من يده! لا سيما وأن الأصل في كل فن إدخال البهجة على قلب الإنسان على حدِّ قول صاحبي الكوميديا والتراجيديا. وعن سؤالنا حول هل الكتابة موهبة أم مكتسبة يقول البشير: الأمران سوياً، فلا غنى عن الموهبة أولاً والاكتساب ثانياً: بالتتلمذ على جهابذة هذا الفن بقراءة كتبهم كالسعدني وطملية وجعفر عباس عربياً وبرناردشو عالمياً وغيرهم، والخروج بلون ومذاق فريدين بموهبة خاصة، وإلا فالنسخة المكررة لا تصمد أمام الأصل على الإطلاق. والكتابة الساخرة قديمة بقدم الظرفاء في تراثنا العربي الذي لم يهمل أخبار الظرفاء، بحسب جغرافية البلاد التي لا تزال تلعب دورها حتى في وطننا، فالظُرف يختلف باختلاف جغرافية المكان وأثره على طبيعة البشر. والسخرية الشفوية موهبة راقية بسرعة بداهة الظريف، وهي تقاس بعدد المقابل، فالظرف اللفظي تتسع دائرته في زمن البث الفضائي أو المسرحي، والسخرية المكتوبة كذلك، فلها نصيب الشفوي في زمن رسائل الجوال التي استشرت وداهمتها الطرفة بقوالب محلية بأيدي الكتاب الساخرين. وهنا يقع الأمر ذاته بمحدودية الكتابة الساخرة الراقية مقارنة بالطرف العامية. شأنها شأن الشعر الفصيح والعامي والأمر يعود لثقافة الشعوب في كل زمان ومكان، وإن كان من اختلاف بين السخرية الشفوية والمكتوبة فالأمر يقاس بصعوبة أن تضحك المقابل من خلال كلمات مكتوبة مقارنة بتأثير السماع والرؤية في السخرية الشفوية. ويحدثنا الدكتور فواز بن عبدالعزيز اللعبون جامعة الإمام - كلية اللغة العربية - قسم الأدب - الذي يعد حاليا كتابا إبداعيا باسم: (فائت الأمثال: مقاربة أدبية ساخرة)، كما له مجموعة قصائد إخوانية ساخرة يقول:في رأيي أن الكتابة الساخرة في المملكة لم تزل في مرحلة التشكل على الرغم من البدايات القديمة التي كان من المفترض أن تسهم في رقيها الفني والمضموني حاليا، كما أن كتابها محدودون، ولكنني أظن أن القادم أجمل وبخاصة مع الانفتاح الإعلامي والشبكي الذي أتاح للجمهور التعرف على طائفة كبيرة من هذه الكتابات، ومن ثم تأثروا بها على مستوى القبول وعلى مستوى الاحتذاء. ويضيف اللعبون: على الرغم من كون الكاتب الساخر يرتكز على طاقة تعبيرية وتصويرية من نوع خاص إلا أن حظه في المشهدين الفكري والثقافي يأتي تاليا لا سابقا، وربما عاد ذلك إلى سخونة المشهدين واحتدامهما، وحاجتهما إلى الطرح المباشر الواضح، ولا يعني ذلك أن تأثير الكاتب الساخر ضئيل، فله حضوره المميز الذي يمكنني أن أصفه بالتنفيسي ثم العلاجي، بخلاف الكتاب الآخرين الذين يضعون مبضعهم على الجرح بجدية أكثر. ويجزم اللعبون أن شخصية الكاتب الساخر لا يمكن لأي أحد تقمصها، كما أن لكل كاتب ساخر بصمته الخاصة، ومهما يكن فإن الكتاب الساخرين يرتكزون في المقام الأول على رشاقة أرواحهم، ودماثة أخلاقهم فردياًّ ومجتمعيا، ويحسنون اقتناص التعابير والتصاوير من تجاربهم الخاصة وتجارب من حولهم، ولهم نظرة شفافة فيما يدور حولهم، فهم يركزون على المظاهر قبل الظواهر، ويحسنون توظيف المبالغة والتهويل والتحقير أيضا، ولهم قابلية كارزمية تجعل ما يطرحونه مقبولاً على علاته وإن لم يقبل على الحقيقة، في حين لو طرحه سواهم لكانت ردود الأفعال مختلفة تماما. فالكتابة الساخرة برأي الدكتور فواز هي قبل أي شيء موهبة، ثم يأتي الاكتساب داعماً ومنميا، وبهذين (الموهبة والاكتساب) يتحقق أكبر قدر من نجاح الكاتب الساخر. ولا أجد فرقا بين السخرية الشفوية والمكتوبة إلا في القدرة اللغوية التي تتطلبها الكتابة، فالمضمونان متقاربان، ولكن الساخر الكاتب يرصفها بلغة أنيقة رشيقة يتمهل في طريقة أدائها، في حين أن الساخر الناطق يتحرر من قيود اللعبة اللغوية المكتوبة إلى فضاء تعبيري أرحب وأكثر تلقائية، والاثنان (الكاتب والساخر) مؤهلان موهوبان، وباستطاعة الساخر الكاتب أن يحول سخريته إلى منطوقة، في حين لا يحدث ذلك للساخر الناطق إلا إذا أحكم لعبة الكتابة. ونختم مع الكاتب الساخر محمد السحيمي حيث يحدثنا عن تجربته بالكتابة الساخرة فيقول: عانيت كثيرا في بداية كتابتي الصحفية الساخرة، حيث كانت مهمتي بالكتابة بعث المقالة الساخرة من جديد وإعادة هيبتها والتي تتطلب من القارئ إحساس بالكوميديا المكتوبة، حيث إن الكتابة الساخرة بدأت مع بداية الدولة السعودية الحديثة ومن أشهر الكتاب آنذاك الشاعر أحمد قنديل مخترع الشعر الحلمنتيني، مع أن جميع الشخصيات المشهورة مثل محمد حسن عواد والسباعي مارسوا الكتابة الساخرة، بعد ذلك توقف الإتجاه الساخر إلى الأديب فهد العريفي الذي عرف بزاويته في اليمامة «في حدود المحبة» وكان آخر الساخرين في وجهة نظري، ثم توقفت الكتابة الساخرة وأصبحت المقالة الصحفية التي تعتمد على اللغة هي المهيمنة من حيث بساطة الفكرة والأسلوب الواضح المباشر بمعنى أن المقالة لم تعد مقالة فنية بقدر ماهي مقالة خبرية أو صحفية تقريرية يمارسها الصحفيون. ويضيف السحيمي: أعتقد أن مستقبل الكتابة الساخرة جيد حيث نجد بعض الكتاب الشباب بدأوا ينتهجون هذا الأسلوب مثل ماجد بن رائف وأمل زاهد متى أرادت، حيث إن الانفتاح على هذا الأسلوب من الكتابة أصبح متاحاً للجميع من خلال الإنترنت ومواقع إلكترونية تعتني بهذا النوع من الأدب، فالبيئة أصبحت مناسبة لأن تأتي بالجديد والكوميدي، وأسلوب معالجة جديد، فأنت عندما تنتقد أي جهة بأسلوب ساخر فأنت تشد عليهم وتستثير غضبهم أكثر من أن توجه النقد لهم بطريقة مباشرة. لذلك أعتقد أن الناس ستعطي الحظ الأوفر للكاتب الساخر أكثر من غيره لأنه أقرب إليها بخفة دمه وجاذبيته، وإشفاء غليله، وأيضا يستطيع الكاتب الساخر التنفيس بالسخرية عن هموم المواطن والعرب تقول شر البلية مايضحك، فالكاتب الساخر أكثر حضورا لدى القراء من غيره. ويقول السحيمي: يحتاج الكاتب الساخر إلى الصدق والعفوية وعدم التكلف، ولكن ليس بمعنى عدم العمل على المادة وإهمالها، حيث إن الكتابة الساخرة أصعب أنواع الكتابة وتحتاج لجهد وثقافة واسعة لالتقاط الأفكار وتصويرها بالكلمات الفكاهية. وهي تعتمد على موهبة الكاتب ثم يجب أن تكون احترافية وأن تصقل بكثرة الإطلاع والممارسة الكتابية، حيث لا يمكن لأي أحد إتقانها بسهولة.