من أعماق الدهشة تتقلب العقول، ومن سطوح العجب تقشعر القلوب.. وفي الغربة تتوشح الأفراح بالعزاء، ويتقلد العزاء بالأفراح.. فتتشوه الصورة.. وتضيع الحقيقة.. ويتوهم المعقول، وتعتقل الأوهام.. فلم نعد نعرف من نحن، وأين نحن، ولماذا نحن هنا؟ ما نعرف عن العزاء أو التعزية.. هو الواجب الديني.. هو الدعاء.. هو الوقوف بجانب مصاب قريب.. العزاء هو أن يتشاطر، ويتشارك معك شخص ما بصدق وعمق ذلك الألم الذي يأتي بعد فقد غال وحبيب.. لابد من أن تراجع تلك النفوس واقعها المؤلم مع طقوس التكلف، والبذخ، والبطر فلا يفرق معهم العزاء عن العرس.. وليتقوا الله في أمواتهم وأنفسهم.. وليعرفوا الحق فيما يجب عند العزاء من أحكام وآداب وحكمة. لقد تضخمت بعض الطقوس حول مجالس العزاء، واتسعت مساحات التكلف فيها، وانكمش الهدف من إقامتها.. فتحولت مناسبة العزاء لدى الكثير بيننا إلى مناسبة أفراح حيث تجد ان سمات تلك المجالس تحولت من واجب العزاء إلى «مواجيب» الضيافة، ومن التعزية إلى التسامر، ومن الراحة إلى الانشغال، ومن البساطة إلى التكلف، ومن القيمة إلى المظهر.. لم تنجُ مجالس العزاء عند الكثير من المنافسة على ما يقدم فيها من أطايب المشروبات والطعام، وتقديم خدمات الضيافة.. حين تتوجه لأداء واجب العزاء تتفاجأ عند الكثير مظاهر يبالغ فيها من الاستعداد لاستقبال المعزّين على انهم ضيوف فتشابهت المجالس علينا، وتماثلت مظاهر الولائم ومناسبات الأفراح بمناسبات العزاء.. صدمت حقا حين شاهدت ذلك البوفيه الممدود من طرف خفي هناك إلى طرف آخر.. بوفيه امتلأ بأصناف الطعام الشهية والفاخرة والحلويات حتى ظننت أنني لست هنا في عزاء بل هناك في حفلة عرس.. وشدني تدفق الكثير من الحاضرين إلى التماهي مع هذا البوفيه بصف طابور طويل.. كلُ يحمل طبقه ينتظر دوره ليختار مطلوبه من الطعام.. مازلت بمكاني.. هل نحن بالفعل في عزاء.. والميت قد دفن قبل سويعات من وقت إعداد هذا البوفيه وتجهيزه.. هل هذه مشاركة في الألم أم في الطعم.. لم تكن الحالة الأولى التي واجهتني ولكني كنت اصمت وأقول انها تصرفات فردية مرتبطة ببرجوازية العائلة الفلانية.. ولكني رأيت الأمر يتكاثر.. فما بين موائد «المفاطيح» وصواني «المثلوثة» تحول الأمر إلى ترتيبات فندقية، ووصل الأمر بالبعض إلى قتل المشاعر الحانية التي تستوجبها أجواء الحدث، وتمردوا على ذواتهم التي يفترض ان تستشعر المقام. ختام القول: اعرف المتاهة التي قد تتجه نحوها تلك العادات في محطات العزاء بيننا.. دوما نسير خلف اللامعقول بما يظنه الأغبياء معقولا.. خالفوا الدين، وتخلوا عن القيّم، بالغوا فأسرفوا، وتكلفوا فأذنبوا.. خذلهم الرشد، وخانتهم الظنون.. والعقل تحجر هناك ليشابه غباء البقع الملعونة.. لذا لابد من أن تراجع تلك النفوس واقعها المؤلم مع طقوس التكلف، والبذخ، والبطر فلا يفرق معهم العزاء عن العرس.. وليتقوا الله في أمواتهم وأنفسهم.. وليعرفوا الحق فيما يجب عند العزاء من أحكام وآداب وحكمة.. تويتر @aziz_alyousef