في منافذنا الحدودية لا يزال رقيب الإعلام يمارس مهنة الرقابة على عناوين الكتب، عرفت ذلك بعد أن عدت من معرض الكتاب بمملكة البحرين محملا بكم كبير من الكتب في شتى مجالات المعرفة، وبمجرد أن سألني هذا الرقيب الإعلامي عن الكتب التي بحوزتي كإجراء اعتيادي أخذتني ذاكرتي على وجه السرعة إلى لحظة تاريخية عشناها وعاصرناها، هي لحظة الجوال (الباندا)، وأظنكم تتذكرونه جيدا، لأن فترته كانت فترة انتقالية في تعاملنا مع تكنولوجيا الاتصالات والتواصل، فهو أول الجوالات التي أضيفت إليها كاميرا تصوير. سر تذكري (الباندا) على وجه الخصوص هو أنني ربطت بين مرحلته العصيبة التي مرّت بنا، وبين صعوبة الرقابة على الكتب في ظل ما يعيشه العالم من تطور تقني هائل وسريع، فظلت تفاصيل مرحلة (الباندا) تتقافز إلى ذاكرتي طوال المسافة في طريق العودة. على سبيل المثال لا الحصر، أتذكر أن إحدى المحاكم الشرعية قضت بسجن شاب وجلده 35 جلدة بعد ضبطه وبحوزته جوال نوكيا 6600، وبلغ الأمر بجهة أخرى أن أقامت الحد على الجوال (أبو كاميرا) وأعدمته بمطرقة أمام الجماهير المحتشدة وسط تصفيقهم وهتافاتهم. كما أتذكر بعض الخطب التي قيلت في هذا الجوال الفتنة، كالخطبة التي عنونها أحد الدعاة ب (فاحشة الباندا)، وخصصها لتبيان الخطر الآتي لنا من هذا الجهاز، مؤكدا أنه صنع من أجل القضاء على أخلاقياتنا، وتدمير أولادنا وبناتنا، يقول في الخطبة نفسها : « لابد أن نعيد النظر في اقتناء الجوالات ذوات الكاميرا، فإنها باب لشرور ومصائب خاصة، ما يسمى الباندا هذا الجهاز الذي جاء بكل شر، وختم على الحياء والعفة، ويتضمن الباندا كاميرا وجهاز فيديو يصور بالصوت إلى مدة ثلاث ساعات، وفيه زوم يقرب البعيد». هكذا استدعت حادثة الرقابة الاعلامية زمن الجوال (أبو كاميرا) ربما لتعقد مقارنة بين حالتين متناقضتين في فترتين قريبتين حد الالتصاق، ولتشير إلى الكم الهائل الذي يوفره لنا الإنترنت من معلومات شتى، ومكتبات كاملة ما يدفعنا إلى الدهشة أننا الآن وبشكل عام لا نستطيع الاستغناء عن الكاميرا في جوالاتنا ولا عن الانترنت ولا عن الفيديو، وهو تحول عجيب حدث في غضون سنوات بسيطة، ولو بقي الأمر على ما كان عليه في زمن جوال (أبو كاميرا) فكم جوال سيعدم؟ وكم شخص سيسجن؟ لاسيما أن (الباندا) الذي أعدمناه يوما ما أنجب الآيفون والجالكسي والآيباد، حتى بات الأمر أبعد ما يكون عن السيطرة والتحكم، بل أصبحت الرقابة ذاتية ومن منطلق قناعة شخصية أكثر منها رسمية، وبالتالي فكل مطارق الدنيا لم يعد بوسعها كبح جماح عجلة هذه القفزة وانطلاقتها السريعة. إنه الزمن ياسادة ياكرام. إنها نواميس الكون وديدن الحياة، نعم الزمن الذي يجب علينا أن نتعامل معه بنفس آلياته وقوانينه، الزمن الذي ينبغي علينا أن لا نكابر وأن لا نستهين بقدرته السحرية على صنع التغيير والتحديث رغما عنا في كثير من الأحيان. هكذا استدعت حادثة الرقابة الاعلامية زمن الجوال (أبو كاميرا) ربما لتعقد مقارنة بين حالتين متناقضتين في فترتين قريبتين حد الالتصاق، ولتشير إلى الكم الهائل الذي يوفره لنا الإنترنت من معلومات شتى، ومكتبات كاملة، لا يكلفك اقتناؤها سوى القليل من المال والجهد، فإلى أي مدى تستطيع الرقابة التقليدية على المطبوعات في زمن مختلف ووضعية مختلفة تحقيق الأهداف المرجوة منها؟ [email protected]