من هم من جيلنا نحن عواجيز الكتابة.. يدركون أكثر من غيرهم أنه وإلى عهد قريب لم يكن ظهور الكتاب بالأمر الهيّن، بل كان في ذلك خرط القتاد، ولعل الأجيال الجديدة لا تتصوّر أن حواضر الثقافة العربية كانت معدودة، حتى كادت تنحصر في ثلاث عواصم هي القاهرةوبيروت وبغداد، لذلك كان يقال: إن الكتاب يُؤلف في القاهرة ويُطبع في بيروت ويُقرأ في بغداد، أما في الدول ذات الوفرة الاقتصادية فإنه يستعمل ضمن أدوات الديكور! هذا الأمر كان في الماضي، قبل الطغيان الملحوظ لإصدارات الكتب في السنوات الأخيرة، حيث أصبح صدور الكتب ذا كثافة واضحة، في كل العواصم العربية، إن لم نقل في كل المدن والقرى العربية، بسبب انتشار المطابع وارتفاع نسبة التعليم، وسهولة وصول الكتاب ليكون بين أيدي طالبيه في وقت قياسي، مما أدى إلى إقبال الناس على القراءة الحرة، رغم المنافسة الشديدة التي يلاقيها الكتاب من مصادر المعرفة الأخرى، وهي مصادر لم تستطع القضاء عليه حتى وإن استطاعت زحزحته قليلاً عن عرشه، لأن مصادر المعرفة الأخرى تقتصر في أغلبها على استحضار المعلومات وتعجز عن نقل الإبداع الأدبي كما ينقله الكتاب، وما يُصاحب قراءته من طقوس خاصة، تتيح للقارئ التأمل والمشاركة في كتابة النص الإبداعي.. وفق عوامل عديدة أهمها مرجعيته الثقافية، وظروف وملابسات وأسباب القراءة ذاتها مكاناً وزماناً، ويمكن القول وباطمئنان إن وسائل التقنية التي كان يُخشى على الكتاب منها.. قد أسهمت في الترويج له وانتشاره من خلال تزويد القراء بأخبار آخر الإصدارات، وإلقاء بعض الأضواء عليها، ووجدت دور النشر الكبرى في هذه الوسائل طريقاً ممهدة للوصول إلى القارئ في أي مكان في العالم وباللغة التي يريد، وسيجد المتصفّح للإنترنت كتباً ربما لا يجدها في المكتبات العامة التي تعوّد على ارتيادها، ونتيجة لذلك حقق الكتاب حضوراً وانتشاراً لم يعرفهما من قبل، خاصة بعد أن أصبحت الإصدارات أكثر من أن تعدُّ أو تُحصى، نتيجة وفرة الإصدارات التي تطبعها المؤسسات الرسمية الثقافية، وتلك المرتبطة بالمناسبات الثقافية المختلفة، أو التوجّهات الإيديولوجية العديدة، التي اتخذت من الكتاب وعاء دائم البقاء لترويج ما تريد ترويجه من أفكار ومبادئ، لتشتد بذلك وتيرة (ماراثون) الإصدارات وفي كل المجالات، ودون حدود. إن كثرة الغث أدت إلى تراجع السمين، حينما استطاعت أن تستولي على جزء من الميزانية التي قد يُخصصها بعض المهتمين بالثقافة لشراء الكتب، وهي بهذا المعنى تصبح عبئاً اقتصادياً على ميزانية الأسرة، دون مردود ثقافي منتظر من اقتنائها، وكل ذلك يأتي على حساب أمور أخرى يفترض ان تتوافر للأسرة التي تعوّدت على اقتطاع جزء من ميزانيتها للثقافة وتحديداً شراء الكتبلكن هل هذه الكثرة والانتشار حققا أهداف التثقيف والمتعة.. دائماً؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عنه بنعم إذا أحسن المتلقي اختيار الكتاب المناسب، لأن كثرة الإصدارات أصبحت أكبر من أن يتابعها القارئ الذي يسعى وراء المعرفة والمتعة، فقد أصبحت بعض الإصدارات كغثاء السيل، لا تفيد إن لم تضر من يتعاطاها، ووجوه الضرر هنا متعددة تتجاوز الخسارة المادية، إلى الخسارة الفكرية أو الأخلاقية في بعض الأحيان.. حين التعاطي مع كتب معينة يعرفها القارئ، فأصبح البحث عن الكتاب الجيد كالبحث عن الإبرة في كومة قش. ثم هناك من يريد أن يطبع كتاباً متوجّاً باسمه وحسب، وبعضهم يريد أن يزاحم في سوق الكتاب بمنتجه المتواضع، وبعضهم لا يعنيه حتى تسويق الكتاب ويكتفي بصدوره وتوزيعه هدايا على الأصدقاء، حتى غلب الكم على الكيف، وأصبحت دور النشر ولأسباب غير موضوعية.. تحرص على تسويق الكتاب الذي يقبل عليه الناس بصرف النظر عن قيمته الأدبية أو الفكرية، وهذه الغلبة للكم على حساب الكيف.. أثرت تأثيراً سلبياً على ظهور الكتاب الجاد الرصين والمتوافر على المتعة الذهنية والفكرية والإبداع الجميل. إن كثرة الغث أدت إلى تراجع السمين، حينما استطاعت أن تستولي على جزء من الميزانية التي قد يُخصصها بعض المهتمين بالثقافة لشراء الكتب، وهي بهذا المعنى تصبح عبئاً اقتصادياً على ميزانية الأسرة، دون مردود ثقافي منتظر من اقتنائها، وكل ذلك يأتي على حساب أمور أخرى يفترض ان تتوافر للأسرة التي تعوّدت على اقتطاع جزء من ميزانيتها للثقافة وتحديداً شراء الكتب والدوريات من صحف ومجلات وغيرها، وإن كان هذا التخطيط لميزانية الأسرة أمراً لم تعرفه بعد معظم الأسر العربية، لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن ما يُصرف على الشأن الثقافي لدى الأسرة العربية هو جزء من ميزانيتها العامة وإن كان ضئيلاً. نحن كثيراً ما نطالب بترشيد الاستهلاك للماء والكهرباء وترشيد الإنفاق على المواد الكمالية، وقد آن الأوان لنطالب بترشيد إصدارات الكتب.. خاصة تلك التي لا تساوي قيمة الورق الذي تطبع عليه، ولن يتحقق ذلك إلا بأن تمتنع دور النشر عن طباعة وتوزيع الكتب الهزيلة في مادتها، وفي طرحها، وفي هدفها، وهو أمر شبه مستحيل بالنسبة لدور النشر وهي في مجملها تجارية تسعى إلى الربح أينما كان مصدره، والحل الممكن هو انصراف القارئ عنها.. لما هو أنفع وأجدى وأكثر متعة وإثراء لثقافته العامة، وإذا كان من الصعب السيطرة على الإصدارات من الجهات الرقابية، باعتبار أن الرقابة الرسمية غير مطلوبة على الكتب، وغير مجدية في ظل توافر وسائل التثقيف الإلكترونية.. فإن على القارئ ان يكون رقيباً صارماً على نفسه، فلا يختار سوى الكتب ذات الفائدة والمتعة الذهنية، التي تضيف إليه جديداً، وتثري معلوماته، وتطوّر ذاته ثقافياً وفكرياً. القارئ وحده يملك مفتاح الحل من خلال الاختيار المناسب لما يُريد قراءته رغم هذا الكمّ الهائل من الكتب التي تحاصره من جميع المصادر، ومنها الكتب المجانيّة التي تصله من جهات داخلية وخارجية، ربما لا يعرف معظمها.