يقول ابن الرومي: غير أن اليقين أضحى مريضاً مرضاً باطناً شديد الخفاء ابن الرومي أنسن اليقين وصوره متقلباً على سرير المرض، إنه مرض باطني لا يرُجى شفاؤه.. وهذا التصور لم ينشأ فقط من طبيعة ابن الرومي المتشائمة.. بل منها ومن طبيعة العصر الذي عاش فيه (221 – 283ه) فقد كان عصراً قلقاً وهذه لازمة كل عصر متسائل يفتح النوافذ أمام الاحتمالات وزعزعة السكون. ونظرة سريعة إلى مسيرة التاريخ تخبرنا أن السيد اليقين منذ اخناتون (1370 – 1353 ق.م) وهو مطارد لا يستقر في مكان الا وتلاحقه سهام الشك التي يبريها نمو المعرفة. يعرف اليقين بأنه: (الحالة التي يستقيم فيها الذهن كلما أدرك الإنسان شيئاً واعتقد أن إدراكه مطابق للشيء بعينه وبأن الشيء لا يمكن أن يكون إلا هكذا، أي كما أدركه). معنى هذا التعريف أن اليقين هو امتلاك الحقيقة المطلقة ونفي أن تكون هناك احتمالات أو قراءات للنص الواحد.. أي نفي الرأي الآخر نفياً قاطعاً، وهذا ما يزحف علينا الآن زحف الوباء. في كتابه (ميزان العمل) يقول الغزالي بعد أن قرأ بيت المتنبي: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل يقوله: (ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات «كلمات البيت» إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب فناهيك به نفعاً. فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال). غريبة على ذهنية الغزالي هذه الكلمات اللؤلؤية (من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال) لأنه لا يؤمن بالسببية أصلاً.. ولكن الحقيقة تفرض نفسها. لقد حاربت الكنيسة وبعض مشايخنا من قالوا بدوران الأرض ولكن لأنها حقيقة علمية فرضت نفسها حتى على أعدائها.. وهكذا سيبقى اليقين مطارداً..