هل رأيته؟ إنه ذلك الذي اشتعل رأسه شيبا وهو واقف وعيناه تخوضان في موجات الشباب المندفعة اندفاع الطوفان في ساحات تونس وهو يشير إلى رأسه صارخا : «هرمنا.. هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية». إنه يعني جيله كله (نا) وهنا أريد ان أنقل نفس المشهد إلى (نحن) إلينا نحن الذين زينت لنا صورنا اللامعة لمعان السراب في الصحف.. إن ما نكتبه سوف يقتاد الشمس والقمر معا ويجعلهما يسيران في أزقتنا المظلمة وسوف يجعل الربيع محتلا لمساحة الزمن طاردا جميع الفصول الأخرى. إن المستقبل له نوافذ لا نعرف الدليل إليها.. الشباب وحدهم هم الذين يعرفون الرؤية منها.. وعلينا أن نتعلم منهم.. علينا أن نفهم أن مقالاتنا وأفكارنا وما نزعم من نوافذ ننحتها.. ما هي إلا حطب لا يصلح للاشتعال. إن ما نكتبه مزخرفا بأقوال الماضين أو بأشعار وتنظيرات نقتبسها أو نغتصبها من هنا وهناك ليس إلا اجترارا.. انه ملوث برائحة المقابر.. انه مثقل بغبار أزمان مرت من هنا ولم تكن أبدا بقرب أحاسيس الشباب في الحاضر ولا نعرف الجمر المتوهج في طموحاتهم وما يتبركن في أمانيهم. إننا لا نفهم لغتهم لأنها لغة لا تستخدم الكلمات.. لقد تربت آمالنا وأحلامنا ولغتنا في زمن تهادى.. زمن لم نعرف من مفرداته سوى مفردة (الانتظار). إن المستقبل له نوافذ لا نعرف الدليل إليها.. الشباب وحدهم هم الذين يعرفون الرؤية منها.. وعلينا أن نتعلم منهم.. علينا أن نفهم أن مقالاتنا وأفكارنا وما نزعم من نوافذ ننحتها.. ماهي إلا حطب لا يصلح للاشتعال. لابد أن نطهر عيوننا من عادة النظر إلى الوراء وقراءة الكتب متجهين إلى قراءة نص جديد يسمونه الشباب.. يسمونه لغة الواقع.. يسمونه لغة الجمر. لقد زرت مصر عشرات المرات.. والنيل قد شغفني حبا من الرؤية الأولى.. وكنت زيارة بعد أخرى أرى الطحالب شيئا فشيئا تلطخ وجهه حتى يكاد تدفقه أن يحتجب .. وشاهدت أخلاق الناس تتهدم تباعا بسرعة تسبق الخريف.. وكان الجوع يسير في الشوارع مرحا يخرق الأرض ويبلغ الجبال طولا. في الزيارة الأخيرة كان اليأس ظلا صغيرا يمشي بجواري ويقدم دليلا يكبر ويكبر إلى أن أصبح بطول الهرم وحجمه.. ونفضت قدمي من السير بقرب النيل مرة أخرى، وفجأة يزأر النيل أو يغني.. وإذا بالتاريخ يردد قول الجواهري: يا مصر تستبق الدهر وتعثر والنيل يزخر والمسلة تزهر وبنوك والتاريخ في قصبيهما يتسابقان فيصهرون ويصهر.