كتب أمين الريحاني عند قدومه إلى الحجاز في زمن قديم أو قل على الأصح أيام اعتزاز أهلها باللغة العربية وكان فرحاً بوجود جهاز الهاتف في هذه المنطقة مع الحفاظ على ثقافة أهلها، قال: "الهاتف في مكة المكرمة! ولكنه مستعرب تماماً، فالحجاز هي البلاد العربية الوحيدة التي لا تسمع فيها: آلو آلو، الناس هناك يهتفون ويتحادثون بلغة عربية لا رطانة ألبتة فيها"، ص 29 ملوك العرب طبعة:1951. قريبا، دخلت مكتبة عربية في دولة مشرقية، وعند الباب حارس بيده قائمة يسجل فيها الداخلون أسماءهم، فكتبت اسمي بالعربية، فاعترض الحارس الهندي محتجاً، وقال: "انجلش"، قلت له: "هذا بلد عربي"، ولم أقل له بأن البلد لم يصبح: "مستعمرة هندية"، فطلب بعد إصراري أن أكتب بالعربي، أن أكتب بجانبه ترجمة بالإنجليزية، قلت: اطلب مترجماً غيري، غضب مني غضباً شديداً، ومرّر الموقف بحنق، ثم عقب مفسراً: إن الإدارة هنا وهم عرب يريدون الكتابة بالإنجليزية! هممت أن أقول له: لعلهم أميون معقدون، يحبون أن يقال عنهم أفندية! الحارس صادق؛ فالإدارة العربية تخضع للغة الحارس الإنجليزية الهندية، التي لا يكاد يفهمها هو نفسه، فهو من يردد بعض حروفها، وتستحي الإدارة أن يقال عنها أمية أو غير واثقة من نفسها لو كتبت بلغتها؛ لأن اللغة العربية لدى الأميين العرب أصبحت علامة تخلف، والإدارة تحب أن تكون تقدمية، فتكتب أو تحاول أن تتحدث بلغة الاحتلال الثقافي الهندي. فالبربرة وخلط كلمة انجليزية وأخرى عامية هي ثقافة تميز بها الأميون في المشرق العربي. مشيت وفي القلب مشاعر عديدة، أهمها أن هذا الحارس الهندي الطيب الأمي، ربما أصبح محتلاً لعقول المشرفين على مؤسسة ثقافية، ورثيت لهذا الخليج العربي الذي تتسع فيه أمية السكان، يلطخون أميتهم بكلمات إنجليزية تثبت أميتهم، هذا الخليج الذي يتجه ليكون هندياً تابعاً لبدائية هامشية ثقافية للأميين الهنود، ليست حتى ثقافة الهندي، وبرغبة الأميين المؤثرين من سكان المنطقة، وخنوعهم للأميين العابرين، وما تشير إليه لغتهم من احتلال هندي للمستقبل. ثم إن عقدة التبعية للهند أكبر مما تخطر ببال السكان في المشرق العربي، فها هو سائق أو خادمة هندية أو سيرلنكية تحل ببيت العرب، فتحول لغته مباشرة، ويصبح البيت مستعمرة سيرلنكية أو بنجالية، وإذا أرادت الخادمة أن تتبعهم أو تتعلم لغتهم، أبوا ذلك، بل يتبعونها بشغف!! في مطار الرياض، جاء راكب متأخر، فحاول اللحاق بالطائرة، وكان يطلب السماح من المراقب من أهل بلده فأخبره بعدم إمكان ذلك، فنهر المتأخر ابن بلده بقسوة، فحوله مقهوراً للمراقب الهندي، فبدأ يخاطب الهندي: "بليز"، أي" فضلاً!! تعجب المواطن، وقال بمرارة: "عندي سبّ، وعنده "بليز!"، شهدت الموقف. فهل المتأخر لا يعرف من اللغة الأجنبية إلا هذه الكلمة؟ أم هل هذا شعور بالدونية اللغوية؟ وهل العربية لغة إهانة والإنجليزية لغة احترام؟ أم أن اللغة الأجنبية تفرض ثقافة احترام ليست عندنا! أم أننا إذا تحدثنا بلغة أجنبية عادت لنا بعض سمات الاحترام للذات!أم إنه الضعف الثقافي المريع، والأمية المغرقة، فالقابلية للاستتباع، تقمع الذات وتذهب العزة وتبيد الكرامة الذاتية، وتسحب العربي لقمع الرقي اللغوي، وهجر التهذيب! إن المواطنة والعزة والقومية والدين والمصلحة المادية لسكان بلدك، تفرض عليك تقديس وتقديم لغتك، لتجد ثقافتها سوقاً ومالاً، وليجد متكلموها مكاناً، وتحيي تراثاً، وتصنع لها مستقبلاً، وإن التبعية والمهانة والخذلان، تجعلك تبربر في بلدك بلغة المحتلين القاهرين، والاحصاءات غير الدقيقة، تقول إنه يتحدث بها أربع مائة مليون. في فندق خليجي، اشتكى الضيف من عدم قدرته على تحقيق مصالحه فيه، فهاتفت موظف الاستعلامات بالعربية، فلم يعرف، فقلت له بالإنجليزية أريد أحداً يتحدث العربية، فحولني لثان ثم لثالث ثم للاستقبال، ثم قال لي المسؤول الكبير: بعد نصف ساعة سيأتي موظف يعرف العربية!! وأحد ضيوف الفنادق العربية مرة وهو غربي يقول: كنت أود أن أجرب وأطبق ما أعرفه من العربية الضعيفة، فوجدت في بلادكم أنه يجب علي أن أتعلم الإنجليزية العربية والإنجليزية الهندية! سيحتج الأميون بالسياحة! وكأن سياحة قريتهم أكثر من تركيا أو فرنسا التي تدافع عن كرامتها اللغوية بشراسة! ثم إن من معاني هذا، أن الضيوف العرب وأغلبهم رأيتهم من الخليج بثيابهم لا بد أن يهينوا أنفسهم في بلادهم، ويلغوا عزتهم القومية، ويبربروا بإنجليزية هندية وإنجليزية صينية وإنجليزية عربية، وما شئت من لهجات الدنيا إلا العربية فإنها محرمة، ومن معاني هذه المأساة تردي الخدمة وضياع الذوق، وغربة الإنسان في بلده، وإهانة لغته. أما عن الإنجليزية الهندية في الخليج، فقال لي أحد الأصدقاء: كنا في الرياض نرى كلمة "سيم سيم" تعني عندما تكرر الشيء نفسه أو أمرين متساويين، وفي معهد لتعليم الإنجليزية في بريطانيا قال الإنجليز: إننا لا نستعمل هذه الكلمة مكررة بهذا الأسلوب، ولا تكفي مقطوعة هكذا عن السوابق أو اللواحق، وبقي أن يستفسر هؤلاء عن معانيها في اللغات الانجليزية. أما اليوم، فإن استطاع أحدهم أن يخلط عربية بإنجليزية في أي مقطع من الكلام، فسوف يشعر بأنه تقدم تقدماً كبيراً فوق الجميع، وفي مصر لغة هجين عجيبة، فالمتحدث يضع الكلمة العربية ثم يخبرك بعدها أنه يعرف المرادف لها، فيقولها بالإنجليزية المصرية، وإن كان متعمقا أكثر حذف المفردة العربية ووضع ما يعرف من اللغة الأجنبية مكانها، في تشويه يمكن تسميته "تجدير العربية نشر الجدري على وجهها وهناك بلاد أصبحت تسمي نفسها: كسا (KSA)، كما يطيب لبعضهم في الإعلام حتى الرسمي، وفي لوحات السيارات ألغي اسم البلد العربي، وأصبح KSA، وشركة الهاتف كان اسمها "الاتصالات"، هذا الاسم الجميل الواضح وفي بلد الولاء والبراء، أصبح يروج لها ماروني ويسميها "إستيسي STC"، وشركة فودا فون البريطانية، فتحت فرعاً فسمته: "زين"، فأيهما متخلف حضارياً ومصراً على السير للوراء؟ البريطاني يفكر في الربح والذوق، والبدوي لا يفكر بل يستولي عليه التبعية والانسلاخ. إني أعذر كبار السن الذين يتناولون جهاز الهاتف ولابد أن يقولوا آلو آلو، حتى يرد عليهم الطرف الآخر؛ لأنهم توقعوا أن آلو شرطاً في عمل الجهاز أو تشغيله، ولكن كيف أعذر نفسي وغيري عندما نتكلف لغة غيرنا ونتصنع ما لا نفهم؟ مرة، كان يسير سائح أمريكي مسلم يسير في سوق مغربي، وسمع أغنية جنسية وقحة تذاع في الشارع العام على آذان مواطنين محترمين، فاستنكر وقال: هل فعلاً يفهم هؤلاء هذه الكلمات؟ إنها كلمات غاية في البذاءة، أين ذوق الناس في بلادكم؟ ولكن العربي الذي كان معه قال: إنهم لا يفهمون من هذا الكلام شيئاً، إنهم يذيعونها حتى ترضوا عنهم ويقال إنهم مثلكم! إنها من رسوم التخلف العقلي والثقافي أن تجبر سكان المستعمرات على لغة وثقافة المستعمرين وإن لم يفهموها، فيقال في المستعمرات ويمارس من الدناءة باسم المستعمرين ما يترفع عنه المستعمرون في بلادهم! وعوداً على مستوى الوعي الحجازي أيام الريحاني، فقد كانوا في الحجاز آنذاك يفرقون بين الهاتف وبين ثقافة مصنعيه. ولكن يراهن المستعمرون دائماً بالقضاء على عقول وهوية المستعمرات بالتهويل، فلو حصل فصل بين اللغة والقوة، أو اللغة والذوق، أو بين المسيحية والنجاح، أو بين الشقرة والذكاء، لفقد المستعمر بعض مبررات الاستعباد للشعوب والثقافات المهزومة. وقد كان المستعمرون يحرصون على الاتصال الموهم بين المستعمر والآلة، بل وقوى الكون المسخرة له، أو يوهمون بأنها جزء من قوته، وكانوا يهوّلون ذلك في وجوه الضعفاء، فمن تلك القصص التي سجلها المستعمرون في أمريكا الجنوبية، أنهم زعموا أن الهندي لم يكن يتخيل أن الفارس الإسباني والفرس كيانين منفصلين، بل يتوقعونهما مخلوقاً واحداً هائلاً، أو حيواناً مرعباً قاتلاً له ذكاء الإنسان المحارب وقوة الحيوان، حتى إنهم كما قيل: كان الإسبان يقتلون الفرس المصاب أو يحرقونه، حتى لا تهتز أو تختفي الأسطورة من رأس الهندي المغلوب على عقله. أما فرحة الريحاني بما رآه في الحجاز، فقد سابقه عبد الغني العريسي متحسراً من تملق بعض المواطنين أو إكراههم على لغات أجنبية: "أما في ولاياتنا العربية، فإنهم لا يخجلون من أن يستعملوا اللغة الفرنسية بدلاً من العربية مضافة إلى التركية، فترى أوراق البرق ودوائر البريد تعلوها الرسوم التركية والفرنسية، فيا ويح من لا يخجل أن يهين الأقوام في بلادهم بامتهان لغتهم"، مختارات المفيد، 1921912م (عن مجلة الدوحة، 19). ولكن الضعفاء الذين لم يمتهنهم الصنفان من قريب، أهانوا أنفسهم في بلادهم! فالمؤتمرات في بلاد العرب بالانجليزية وأسماء العرب بها، أو قد تكرم فتكتب تحت الرطانة الأجنبية، وزعماء أوروبا يسمع كل منهم لخطاب الآخر عبر مترجم، وفي بدء الاتحاد الأوربي، 11 ألف وظيفة ترجمة، فحصل إغناء للغات المحلية، ويوم تحدث وزير فرنسي في اجتماع للاتحاد الأوروبي انسحب شيراك من المؤتمر بسبب الإهانة أمام تلفازات العالم، ولم يعد إلا بعد نهاية الإهانة، فكم من زعيم عربي طرد موظفا أو وزيرا لأنه أهان بلده ولغته في داره!! لا، لن يحدث لأن هؤلاء يعتزون بأن يهانوا في بلادهم! أجهزة الرد الآلي في المكاتب لم تعرب بسبب بخل مديريها، وغربة التقنية في بلادهم فتبقى كما استوردت، والمستورد لا يملك من الفطانة لاشتراط التعريب، أو حتى يدعي صاحب الشركة أنه أصبح أفنديا، ويعرف إنجليزي في السنين الخوالي. كان الأفندي من يملك الرادي "المذياع"، وكان الدارج: "ياوالله اللي تفندى واشترى رادي"، لم نذهب بعيدا! أما لوحات السيارات في بعض البلدان العربية، فهي دليل على فوضى عقلية وبؤس في الذوق، فتخلط لغتين، وتلغي اسم البلد بالعربية، وتجمع رسمين مختلفين بالحروف، وتترجم الأرقام، ففيها كل ما تتخيل إلا تحقيق هدفها! وقد يكون السبب وجود سائق أجنبي؟ وتخفيفاً لأخبار التخلف، لا طمساً للفكرة التي أتمنى أن تفهم، فقد زعم أحد أقاربي أن: "لوحة الدكان بالانجليزي وعندنا راعي يقرؤها! وعندنا إشارة مرور ضوئية لا نعتبرها، بل نمرّ بحسب السنّ الكبير فالكبير!!". لا نؤيد رفع شعار: "مكتبنا نظيف من العجمة"، ولا: "شارعنا نظيف من الرطانة"، بل نحب من يحترم حق لغتنا أن تعلو في بلادنا. أيها العباقرة دمروا ما بقي من العربية، لأن حارس المكتبة هندي، ولأن في البادية راعيا، ولأن في المدينة سائقا! فالله عهد إليكم تعليم وتعلم الانجليزية ونشرها، سيحزن الريحاني الذي تعلم العربية بعد اللغات الأجنبية، فأبدع بها أجمل النصوص، ثم يقول: شَوه جدري اللغة وجه الحجاز، الذي كان قد أغرق العالم بالإعجاز!