أتذكّر وجه صلاح ستيتيّة، الشاعر اللبناني بالفرنسية، جيداً كيف كان من خمسين عاماً ونيّف، كان وجهاً لا يُنسى: إنه مورّد أحمر مستدير طفلي بنظارتين مستديرتين، وشعر قليل على الرأس، وشفتين رقيقتين. وجه عذب كثير العذوبة، وقامة معتدلة ميّالة الى القصر، يميل بها قليلاً الى الأمام حين يتحدث أو يشرح لنا دروسه في الأدب الفرنسي في دار المعلمين التكميلية في بيروت ما بين 1958 و1960. كان وجه ستيتيّة أقرب ما يكون لدمية. كان له وجه هندسي ولغة في شرع كورنيي وراسين غالباً ما تستدير على الشاعرين الفرنسيين ومن خلال حركاته وأدائه وفهمه لهما، لم يعرض في النتيجة سوى نفسه أي صلاح ستيتيّة الأستاذ. ثم اكتشفت بعد ذلك، عند قراءتي له في ما كتب من أشعار ومقدمات أشعار وأبحاث، ما سبق ما أثارني أوّل ما أثارني فيه من شكل (هندسي) وغريزة لغوية في وقت واحد، فهو في الفرنسية صاحب لغة ناتئة ذات تضاريس وعلامات، لأول وهلة، ولكنه أيضاً صاحب هندسة وتقصيب في اللغة والتأليف اللغوي (النصّ)، وهو يحفر في مادة أثيرية من أصوات وإشارات أين منه الحفر في الحجر؟ شعر ستيتية هو أقرب ما يكون لمنحوتات المثال، تلك التي تنحت التجريد في الحجر، المربّع والمثلث والدائرة والشكل البيضاوي. وفي الكثير من الأحيان يكون الشكل للشكل، أي لا يؤدي الشكل إلّا لذاته. فهو صاحب اختزال ورمز ملموم جداً على نفسه، ويكاد بلا هدف بعينه سرعان ما ينفي الغرض بعد أن يقوله. وحين قرأت له Letre Poupee، «الكائن الدمية» متبوعة ب Colombe aquiline «يمامة كاسرة» التي يهديها الى «اندريه بيار دي مانديارغ». كان قد مضى على حصة درس ستيتيّة ربع قرن من الزمان... ربع قرن من الشعر. ورأيت نفسي أشرفُ من نصوص هذا الديوان على بعض ما شهدته في أول الشباب: ظهور وجه ستيتيّة بالذات، إذ غالباً ما يكتب الشعراء أنفسهم ويرسم الرسامون وجوههم والنحاتون أجسادهم بشكل أو بآخر. فالكائن هنا Letre ليس ضدّ العدم Le meant ولكنه ينطوي على العدم. والكائن أقرب ما يكون «للشيء» في الفلسفة الظهوريّة. وهو ما يُسمى باليونانية The No Menon وتعني «الشيء الذي يريك نفسه أو يعلن عن نفسه بفعل نورٍ ما» (يُنظر شارل مالك في المقدمة - سيرة ذاتية فلسفية - دار النهار ط2/ آذار 2001 - ص 62). والكائن أقرب ما يكون للشيء كما عرّفه المعلّم بطرس البستاني في محيط المحيط: «الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيشمل الموجود والمعلوم، ممكناً أو محالاً، قديماً أو حديثاً، والموجود خارجياً كان أو ذهنياً. والشيء أعمّ العام كما أن الله أخص الخاص، وهو مذكّر يطلق على المذكّر والمؤنّث ويقع على الواحب والممكن والممتنع»، وأقرب ما يكون للشيء بمعناه اللغوي - الفلسفي، «ما» الإبهامية في اللغة العربية، و «أي»، و «كل» (المرجع آنف الذكر ص 78 - 79). فكلمة Letre على الأرجح في عنوان ديوان صلاح ستيتيّة، توصِلُ الى «الظهور» أي الى كل شيء معلن عن ذاته بذاته من ذاته بفعل نورٍ ما... أما كلمة Poupee (الدمية) فتصب في النحت، بما يعني أن شعر صلاح ستيتيّة معقود على قران لغوي بين الفلسفة والنحت، ولكن شعره الذي ينبع من منابع كثيرة، يعود فيصب في ذاته. إن صلاح ستيتيّة لا يقلّد تاريخه ولكنه ينطوي عليه. نستطيع أن نقترب من نصوص ستيتيّة وخزاً وتنبيهاً وإشارةً من خلال ما سماه شارل مالك «هكذا»، وهي الظهورية التي رمّزها الفيلسوف اللبناني واختصرها بدءاً من هايدغر وهوسّرل الذي تأثر بمعلمه برنيتانو ومذاهب الظهوريين مثل ماكس شيلر ونيكولاي هارثمان، بعبقريته الخاصة. قال الظهوريّة هي «هكذا»: أ - الهاء هاء التشبيه للشيء. تلفت وتنبّه. ب - الكاف كاف التشبيه تمثُلُ لنا بفعل إشارة الشيء لذاته ونوره الداخلي. ج - الذا الإشارية صفة الشيء وهويته وصورته. «أما كيف تصبح الرؤية نطقاً محكياً؟ إن هذا السرُّ عظيم» كما يقول مالك، أي تحويل الظهورة الى لوغوس (كلمة)... (المرجع ذاته ص 73). نقرأ مقاطع «الكائن الدمية» لستيتية، ومقاطع ديوانه: «مقاطع: قصيدة» أو «أشلاء قصيدة» (Fragment:Poeme Gallimaro 1978 وسائر ما كتبه من أشعار وكأننا نقرأ ظهورات لغوية للكائن في ذاته أو الشيء، ففي العبارة الفلسفية والنحت اللغوي أو النحو تقع مقاطع «الكائن الدمية» وكأنها لزوم ما لا يلزم للمعرّي، عددها سبعة وتسعون، كل مقطع من ثمانية أسطر وما خلا المقطع الثاني وحده بين سائر المقاطع فهو من تسعة أسطر) ما يعني سيطرة الثُمانيّات التامة على المقاطع. لماذا؟ وهل كل فكرة من أفكار المقاطع تفتح وتقفل بثمانية أسطر لا أكثر ولا أقلّ؟ والجواب قائم في الهندسة. فشعر صلاح ستيتيّة شعر هندسي بنسب دقيقة مبني بناءً عجيباً قريباً من التجريد وتجريد التجريد، وهو نحت في الضوء أو نحت في المعنى الذي هو بدوره يدور في ذاته أي في معنى المعنى وهكذا الى آخره، وغالباً ما هو استطراد مبدوء ب Et (و) وهي ليست معطوفة على ما قبلها بدقّة، ولكنها استطراد لمعنى قديم مبهم كأنه الأبدية، أي قريب من دوران ورقص ودائرة، ما يلامس بعض إشارات الصّوفيّة. شيء يمحو شيئاً من حيث يشبهه أو يلغيه فيما يكونه. يقول في المقطع (7) من «الكائن الدمية»: Et Lhomme aussi est en beaute de femme Comme un objet pour soi comme une Rose Voisine dune Rose... «والرجل أيضاً هو في ملاحة امرأة مثل شيء لذاته مثل وردة مجاورة لوردة». ويقول في المقطع VII من الديوان نفسه: «Avec leau pure avec leau pure intelligible jolie noircie par la Tragedie darbres et ce rayonnement dune montagne Pour une image presque Terrestre et de pluie! Pluie allumee aux braises». مع الماء الصافي الماء الصافي الناصع جميلاً ومسوداً بتراجيديا الأشجار وببرقة جَبَل من أجل صورة شبه أرضيّة ومن مطر! مطر مشتعل بالجمر» ويقول في المقطع LXXXVI من الديوان نفسه: «nuit de la nuit des grappes Selon le sable et le visage en Verite infinie lune infinie» «ليلُ ليلِ العناقيد تبعاً للرمل والوجه في الحقيقة الطفيف القمر الطفيف...» وهو ينقل جُمَلاً كاللازمة من مقطع لآخر، ينقل جملة Tremblante en leau de ce quelle est» من قصيدة رقم VI من Colombe aquiline (يمامة كاسرة) الى مطلع المقطع VII الذي يليه بحرفيتها. ويقول في المقطع نفسه: Lumiere illuminee Retenue par opacite du Corps Sur un Chemin daveugle» «ضوء معتم (ضوء غير مَضاء) ممتصّ بكثافة الجسم على طريقِ أعمى» هذه المقاطع وسواها تقدّم مساعدة للاقتراب منها، من حيث الشيء أو الكائن في ظواهره المتنوعة المتماهية المختلفة المتداخلة المتباعدة المتهاترة السائرة الى العدم. ومن حيث صعوبة بل استحالة الضوء الملقى على الأشياء للانتباه لها والإصغاء اليها والشهادة بها ولها. إن اللغة تحاول أن تساعد نفسها بنفسها وتتقدم كأعمى يتكئ على أعمى، تستعاد، ترتجف، تدور حول نفسها، تقول الشيء ونقيضه، وهي لغة مقطّرة ورموزها قليلة من خلال مفرداتها في الوجود والقمر والضوء، والماء والجمر... فإن صلاح ستيتيّة أحياناً صاحب تكرار لغوي وغنائية لغوية شبيهة بفن التكرار العربي المعماري Arabesque، حيث النبتة المحفورة مثلاً في جدار مسجد أو إطار قصر أو منزل تتكرر لما لا نهاية، أو شبيه بالدور في الغناء الذي يستمر حتى ولو وقف المغنّي. ولكن صلاح ستيتية ليس مستقراً ومستسلماً لمثل هذا التداعي. انه قلق جداً بل خائف بل شكّاك. لذا يضع اللغز ونقيضه، واللفظ ولفظه وقرينه، وغالباً ما يدخل بمبضع اللغة الى لب الكلمة، الى كلمة الكلمة والكلمة في العربية من الجرح، والى ليل الليل... وهكذا. وفي ذلك ما فيه من غموض ولعثمة وغنى ومنحى بالنص نحو الموت فيما هو حياة: «اقتلوني يا ثقاتي/ إن في موتي حياتي» (الحلّاج). لا تستقيم قراءة ستيتية من دون فهم «البنية» Structure في نصوصه. وأقرب ما يكون للبنية، هو ما سماه الأقدمون «عمود الشعر»، المتمثل بالتراتبية والشكل الهندسي الخطي (نظام الشطرين) والوزن والقافية. أما في المُعطى الحديث، فشعر ستيتية قائم على النحو والنحت. والنحو في العربية أرجعه المعجميون العرب الى أصله الذي سبقه في اليونانية (Syntaxe). جاء في لسان العرب لابن منظور: «ثبت عن أهل يونان فيما يذكر المترجمون العارفون بلسانهم ولغتهم أنهم يسمون علم الألفاظ والعناية بالبحث عنها نحواً». فصلاح ستيتية صاحب عناية بالألفاظ سميناها «غريزة» نظراً لحدتها. لكنه بين التلقائية والمختبرية يصنع عماراته ومداميكه اللفظية. ولا بد في كل حال من نور في عمله النحوي والنحتي، وإلا سيغدو حالنا أمام شواهده في اللغة والفراغ والامتلاء شبيهاً بالواقف أمام تلك المدينة المسحورة التي ورد ذكرها في «ألف ليلة وليلة» وقد حلت بها في يومٍ من الأيام لعنة ساحر، فجمّدتها على ما هي عليه ببشرها وحيواناتها وطيورها وقصورها وأسواقها. نسأل: أمام أي شعر نحن؟ واقعي؟ لغوي، شكلاني؟ فنتازي؟... في شعره تجريد. يظهر لنا كأنه يصنع القصيدة المحتملة أكثر مما هو يصنع القصيدة النهائية المنجزة. هو لا يسمي المقاطع بل العمل بكامله. بلا وجد انفعالي وعاطفي ينحو الى تجريد التجريد. لم أجد عند أي شاعر آخر هذا الإلحاح التجريدي إلا عند بعض شعراء الصوفية. وربما كان قريباً من برنكوزي النحات الروماني الذي ابتعد عن الواقع ليخلق عالماً من الكتل الجميلة الدائرة بين الشكل المجرد والحركة المعبّرة المطلقة (ينظر كتاب عفيف بهنسي «الفن في أوروبا من عصر النهضة حتى اليوم» ج2 ص230، طبعة دار الرائد العربي ودار الرائد اللبناني 1982»، وشعره ذاهب مباشرة الى الجيومتري. الى المستدير والمربع والدائرة والأسطوانة... في محاولة لتأليف جمل شعرية بين الرمز والصمت. يقول في المقطع LIX من «مقاطع: قصيدة»: «Le Corps dans son rectangle pur/ Sera parallele a leclat de son triangle: Le vive epee Tranchant lamie des plantes». «الجسم في مستطيله الصافي/ سيكون موازياً لالتماعة مثلته: السيف العنيف قاطعاً صديقة النباتات». إن تثليث المربع والمستطيل وتثليث الدائرة مفاهيم ظهورية بكل حال ولعلّ شعره المفسّر بالظواهريّة مستمد من زوادة فلسفية عربية وإسلامية، حيث المعرفة رمز وتجريد. وهو في الوقت نفسه إذ تستفزه اللغة يرغب لو يكون مفردة منها. في كتابه our en Poesie «أور في الشعر» الصادر عن Stock/ Monde ouvert) (ص 9). يقول: «غالباً ما كنت متأمّل الأنهار. أحب قوتها الذكورية ذاهبة لتخصب في البعيد البحر الكثيف (البحر بالفرنسية مؤنّث La mer)، وبالتالي فإن أوصاف البحر في نص ستيتية أنوثية): البحر - الأنثى الإلهية الشرسة... يلوح لي(...) أنّ حصاد النهر يخط قدراً من القوّة والإبطال (الإلغاء). يقال أحياناً إن ماء النهر هو تغيّر، إنه موضوع للفيلسوف. لكنه، بشكل خاص، موضوع للشعر بقوة ما يرتبه من صلة لا تنفد مع منبعه، وهكذا حتى انجذابة الموتى. أقول عن كل نهر إنه قوس...». ويلوح لي أن ستيتية في هذا النص كأنه يصف نفسه كشاعر لبناني عربي مسلم من الشرق، صبّ في نهر السين (كما يقول) مياهاً شرقية. ومثلما هو شاعر بذاكرة لبنانية وعربية وشرقية، إلّا أنه شاعر لغة فرنسية شديدة الخصوصية وإليها ينتمي انتماءً غير منقوص. ولعله امتدح تلك المتوسطية (نسبة للبحر المتوسط La Mediterranee) الذي أسماه «الوسيط بحر الأنبياء وربات الشعر» كما قال في مقدمته للأعمال الشعرية للشاعر فؤاد أبي زيد (1914 - 1958) الصادرة عن دار النهار للنشر 1996 بعنوان: Fouad Abizeyd. oeuvres poetiques Edition DAR ANNAHR-Beyrouth1996 وهو يستخدم في وصف أشعار أبي زيد عبارات قريبة مما وصفه به آخرون في شعره (مثل دومانديارغ وإيف بونفوا). فهو يلاحظ في قصائده التكسّر والسلب الذي هو إيجاب مثل «وجودك غيابك» و «تعالي ارجعي لا تأتي»، وقدر دخل ستيتية في مقدمته هذه على أبي زيد من خلال «ضباب البحر» وهو دخول مائي لشاعر محترف بقصائده وبجسده. فكما هناك «أبو زيد والفرنسية والمتوسط» هناك ستيتيّة والشرق والسين. وعلى رغم من أنه يذكر أنه لم يسبق له أن اطلع على أي شيء من أبي زيد أو عرفه (مات أبو زيد في عام 1958 أي في العام الذي كان فيه ستيتيّة شاباً) إلا أنه يمتدح كتابه النثري الوحيد والمدهش المسمّى «نثر من أجل فكرة» Prose Pour une pensee - يقول فيه: «النابض العاري الروسي العاطي الحالم الحنون المؤلم صارخاً هنا هامساً هناك» ويكتشف في هذه الصفحات المدهشة «أستاذاً لأدواته حالماً حياته عائشاً حلمه». نذكر في النهاية أن لأبي زيد قصيدة بعنوان «ملاحظات من أجل قصيدة» ولعلّ الشاعرين شربا من ماء واحد بلا موعد محدّد بينهما.