لا تزال مهمة التحرير اللغوي والأدبي مهمة يكتنفها بعض الغموض واللبس في وطننا العربي، إذ ينظر البعض إليها كمؤشر نقص يعتري الكاتب فهو يعني عدم قدرته على تجويد كتابه بنفسه. في حين يرى البعض الآخر أنها مجرد تحسين شكلي ولغوي للكتابة لا يمس جوهر الإبداع. فهل «التحرير الأدبي» مهم للأعمال الأدبية، أم أنه مقتصر على الكتب غير الأدبية؟ وهل يشترط أن يكون لدى المحرر تراكم ثقافي وأن يمتلك حسا نقديا عاليا؟ وما مدى تقبل الكتَّاب العرب لمهمة المحرر ودوره في أعمالهم؟ متى سيتحول التحرير الأدبي إلى مهمة ضرورية ضمن دائرة صناعة احترافية للكتاب.. هذه تساؤلات وهموم يناقشها «الجسر الثقافي» مع مثقفين ومبدعين. شكلي وضروري في البدء، يرى الدكتور حسين المناصرة أن التحرير الأدبي مهمة لغوية، «تحسّن من اللغة في مستويات المفردات والتراكيب والأساليب، وهذه المهمة لا يمتلكها إلا المختصون في مجال اللغة». ومعظم الكتّاب من غير المختصين في اللغة، لذلك لا بد من أن تخضع أعمالهم الأدبية للتحرير اللغوي... لأن هناك إصدارات أدبية كثيرة مليئة بالأخطاء اللغوية، وأحيانا تكون هذه الأخطاء فضائحية...». ويشير المناصرة إلى أن بعض دور النشر لا يمكن أن تنشر كتابا دون تحريره... لكن هناك دور نشر أخرى تنشر كتبا ركيكة ومليئة بالأخطاء.. من هنا لا يعيب أي نص أدبي أن يشار فيه إلى المحرر الأدبي. ودور هذا المحرر ينبغي ألا يؤثر في بنية النص الجمالية!! ليست وظيفة المحرر الأدبي أن يكون ناقدا أو مبدعا، ولا يجوز أن يكون له أي دور في تحسين عناصر العمل الأدبي أو إعادة كتابته... دوره فقط يقتصر على تحسين النص في مستويات الإملاء، والنحو، والأساليب، والترقيم، والأخطاء الطباعية، بمعنى أن دوره شكلي. المبدع الحقيقي لا يحتاج إلى محرر يكتب عنه النص. وفي حال أن يتدخل المحرر في تركيب النص أو تغييره، فهذا تزوير للإبداع؟. محرر سري ويضيف المناصرة: كثير من المبدعين والكتَّاب يلجأون إلى محررين، يحررون كتابتهم...وذلك ضمن اتفاقات ثنائية... ولا أعتقد أن مشهدنا الأدبي والثقافي سيتحمل الإعلان عن المحرر في النص...وهذا من عيوب ثقافتنا...في حين تجد في الغرب ظاهرة المحرر الأدبي معلنة ومشروعة، ولا تعيب الكاتب أو المؤلف.. ويختم المناصرة بالقول: التحرير الأدبي بأية طريقة ممكنة، مسألة مهمة جدا للكتّاب غير المختصين باللغة العربية... وعندما تجد رواية محررة لغويا، وكاتبها غير مختص في اللغة، فبكل تأكيد لا بد أنها خضعت للتحرير الأدبي. تقليد عالمي ويقول القاص طلق المرزوقي: أعتقد جازما أن على دور النشر العربية العناية بمهنة المحرر الأدبي، الذي يمكن أن يساهم في تطوير المنتج الكتابي عن طريق فرز السمين من الهزيل. وكلنا يعرف أن المحرر الأدبي هو من التقاليد العريقة في دور النشر الغربية، ونعرف أيضا أن كل الكتّاب الكبار والمؤثرين عالميا لديهم محررون أدبيون مهمون، وفي هذا السياق نذكر السيدة ريتا بيس، وهي امرأة تعمل محررة مختصة لأعمال الروائي الكبير ساراماغو. والأمثلة في هذا السياق كثيرة تضيق المساحة عن ذكرها. وأعتقد أنه من الواجب على دور النشر العربية تفعيل دور المحرر الأدبي. إشكالية عربية ويؤكد الباحث والكاتب والإعلامي الجزائري عبدالحق هقي: إن موضوع المحرر الأدبي في عالمنا العربي يثير كمًا من الإشكالات وعددا لا بأس به من التساؤلات مما يجعلنا نتوه عن الإجابات في خضم تلك الحيرة!!، حيث لا يمكن الحديث عن المحرر الأدبي دون التساؤل عمن هو الكاتب؟! وهل نحن أمام صناعة للنشر؟! ويضيف: إن الكاتب العربي في عمومه كاتب عصامي هاوٍ، سرعان ما يعتقد أنه بلغ الكمال بمجرد نثر بعض خربشاته، ويشغل نفسه بإقناع المتلقي فضلا عن النقاد بأنه كاتب بليغ لا يشق له غبار!! بدل الاشتغال على تطوير آلياته الكتابية قراءة وتدريبا، لذا يصعب أن تقنعه بضرورة الاستعانة بمدقق لغوي! فما بالك بمحرر لغوي!!، أضف إلى ذلك الجهل بمفاهيم المحرر والتحرير الأدبي كآلية إجرائية وتقنية فنية. ويوضح هقي أن «النشر في عالمنا العربي حتى وهو يتخطى الهواية إلى الاحتراف أقرب للتجارة منه للصناعة، والفرق شاسع بين البائع والصانع!، إذ إن غياب «صناعة النشر» أسهمت إلى حد كبير في تغييب وظيفة التحرير الأدبي كركن من أركان مأسسة العملية الإبداعية وانتقالها من الدوران في فلك الشخوص إلى السباحة في لُج الأفكار، ومن سذاجة المغامرة إلى وعي التجريب». ويختم هقي بالقول: لا يمكن الحديث عن المحرر الأدبي ما لم يستفق الكاتب العربي من وهم التفرد وسطوة الخارق، ويدرك حقيقة أن الإبداع اشتغال وتجريب، وفي ذات الوقت وعي الناشر العربي برسالته النبيلة وأمانة ما يقدمه. شرط الحياد ويرى الشاعر أحمد الهلالي أن مهمة المحرر الأدبي في الصحف والمجلات أو دور النشر ومؤسساته مهمة جدا، وكلما كانت ثقافة المحرر الأدبي اللغوية والأدبية والثقافية عالية، وقدراته النقدية متينة وواسعة، كانت النتائج أفضل وأرقى، وخرجت الأعمال الأدبية بكيفية متقنة، خاصة حين يراجع المنشئ ويتخذان قرارات التحرير معا. ويضيف: أؤيد وجود المحرر الأدبي، إذا توافرت أهم صفة في شخصيته بعد العلم وسعة الاطلاع، وهي صفة الحياد (الفكري) فالإشكالية تكمن في (التوجهات الفكرية)، وغياب الحياد عن بعض المحررين، فالطيف الثقافي أو الصبغة الفكرية، ربما تبرر له التدخل في أفكار الأعمال الأدبية وتوجيهها إلى وجهة لا يريدها المنشئ، أو تصل به الحال إلى طمس بعض الأفكار والتعابير، أو حجب العمل الإبداعي خلف تلك المبررات. تحرر وسياجات ويقول الكاتب كاظم الخليفة: من الجميل الانطلاقة إلى المحرر الأدبي من المعنى الظاهري للمفردة بتجاوز المعنى الوظيفي لها. فعندما يتحرر النص من قبضة المبدع وفي طريق انكشافه إلى الآخرين، سيقف حتما عند مفرزة مهمة يقبل بها المبدع طواعية لثقته التامة أن مادته تتمتع بخاصية التواصلية التي يندرج تحتها الوضوح والفكرة والاسلوب وخالية من عيوب اللغة وقصورها عن فعل التواصل. هنا تصبح المادة الإبداعية «محررة» من السياجات التي تعيقها للوصول إلى القارئ، أليس هذا جزءا من عمل المحرر الأدبي كوظيفة؟ ويختم الخليفة قائلا: أعتقد أن هذا جزء مهم، لكن الأهم هو أن يمتلك المحرر الأدبي المقدرة الأدبية والثقافية في تتبع اتجاهات الساحة الأدبية وراصدا لحراكها، فيعمل على إمدادها بمواد جديرة بأن تستديم هذا الحراك وتثريه، وكذلك أن يفتح سياقات جديدة تنوع عليه. شريك الكاتب وترى القاصة كفى عسيري أن الأعمال الأدبية، وتحديدا: القصة والرواية، شبيهة بعملية البناء، فهي تحتاج إلى تتبع منذ اللبنة الأولى والمعني الأول، وصاحب العمل ذاته بحصيلته القرائية وموهبته وقدرته على صنع عمل جيد، ومن ثم يأتي دور المحرر الأدبي. وأظنه لا يقل أهمية عن مهمة صاحب العمل، بل تزيد بالدراسة والخبرة. وتضيف: الأدب العربي كغيره من الآداب يحتاج إلى أن يخضع للتحرير الأدبي، حتى يصل إلى مرحلة النضوج والتقدم التي وصلت إليها الآداب الأخرى. ويحتاج المحرر إلى قوة تفوق قوة الكاتب قرائيا، والأفضل أن يكون موهوبا في الكتابة، حتى يتعامل مع المنتج الأدبي بروح الأديب وقوة المبدع. ومسألة التهيئة النفسية لتحرير الأعمال الأدبية مهمة جدا حتى يأخذ العمل حقه ويأخذ المحرر حقه أيضا في الظهور والتميز.