مع كثرة دور النشر المحلية، وظهور أسماء جديدة على أغلفة الكتب والروايات، وتباين مستويات الجودة في الكتابة، والضعف في عدة جوانب منها اللغة وانعدام الابداع، ما يثير التساؤلات عن دور لجان التدقيق والتقييم في دور النشر. «الجسر الثقافي» تواصل مع بعض المبدعين والنقاد والناشرين لمناقشة هذه الظاهرة في محاولة لتقصي الأسباب الكامنة وراءها. تسونامي كتابة في البدء تقول الناقدة الدكتورة فاطمة إلياس: اليوم صار لدينا ما يمكن أن نسميه تسونامي كتابة سائبة بعيدة عن الإبداع ولا ترقى لكلمة أدب. المشكلة تكمن في استسهال الكتابة وعدم وجود فرز لما يطرح في معارض الكتب وما تنتجه دور النشر، لا بد من وجود فرز نقدي للكتاب قبل النشر، لا بد من مراجعة أعمق من مجرد التحرير اللغوي والإملائي، لا بد أن تشمل المراجعة المحتوى وإلا أصبحت كتبنا كتبا عادية، فهناك فرق بين الكتابة الإبداعية والأدبية والكتابة العادية، الفرق يتمثّل في الملكة. وتضيف إلياس: لذلك لا بد أن تحرص دور النشر على توظيف نقّاد كبار يراجعون الكتب نقديا، لأن المراجعة بعد النشر لا تفيد فيمكن بثلاثة آلاف ريال للناشر ان تصبح كاتبا لا يتقبّل النقد. ولذلك فإن جيل الكتاب الكبار الذين كنا نقدر كتاباتهم قد انتهى، وأصبحنا في جيل كتّاب لا يتهيبون خوض غمار الكتابة بتجربة ناقصة لنقص السن ونقص القراءة ونقص الثقافة. بعد النشر يصعب أن نلغي الكتاب من الأسواق، المحك قبل النشر لكي يبنى لدينا كتّاب لهم قيمة فكرية، أما بعد النشر فالشللية في الصفحات الثقافية سائدة ولذلك يغيب النقد الحقيقي وتغيب المعارك النقدية المثرية التي أصبحت اليوم جزءا من التاريخ. وتختم إلياس بتوجيه نصيحة للكتّاب الجدد: نصيحتي للكاتب أن ينتظر حتى تنضج التجربة لغويا وفكريا وثقافيا، لكي يحيط بجميع أضلاع التجربة، فهي ليست فكرة بل يجب أن ترتقي لتكون تجربة إنسانية وليس تجربة خاصة. غياب الرؤية أما الناقد عيدالناصر فيرى أن المدققين من الممكن أن يدققوا من الناحية اللغوية، ولكن الكتابة الإبداعية فيها رؤية وفكر، والكثير مما يكتب ناتج عن حصيلة ثقافية ضحلة، ووفرة السيولة وسهولة النشر وعدم الاعتناء بالجودة وراء ذلك. ولم تعد دور النشر عندها خط ورؤية إلا القليل النادر، وهذا المشهد هو جزء ولا يمكن علاج الجانب الأدبي بمعزل عن علاج شامل. وعن الأساليب والأسباب التي تضمن جودة المنتج الأدبي في دول أخرى، قال الناصر: عادة يكون لدى دور النشر معايير معينة للجودة نابعة من رؤيتها، والدول لا تتدخل في هذا الأمر إلا في حدود رقابية ضيقة، وتبقى مسؤولية دور النشر بأن تكون لديها رؤية ومعايير. وختم الناصر بالقول: هذه حالة قديمة، فهناك من السابق دور نشر جيدة وأخرى رديئة، ولكن عدد الجيدة كان أكثر من اليوم، فاليوم صار أكثرها سيئا بسبب شيوع ثقافة الاستهلاك والمحاباة والمجاملة والنفاق. مرحلة طبيعية الروائي حسن الشيخ ينظر للأمر بإيجابية فيقول: إن من الطبيعي أن تتزايد الأعمال الإبداعية مع تزايد دور النشر وتزايد المبدعين الشباب. فعصر الإنترنت والاتصالات اليوم هو غير عصر الأمس.. عصر الطباعة الحجرية. ويضيف: لا أعتقد أننا يجب أن نقلق من تزايد النشر وتزايد المبدعين الشباب والأعمال الإبداعية ولكن الجيل الجديد بحاجة إلى تدقيق وتنقيح في أعماله الإبداعية حتى تصل إلى القارئ من دون اخطاء لغوية ونحوية وإملائية، إلا أن تلك الأخطاء تحدث في كثير من الأعمال حتى لكبار الكتاب. ويستطرد: هناك نقطة هامة ألا وهي أننا نملك العديد من المطابع ولا نملك دور نشر حقيقية. أو دور نشر متكاملة بها المصححون اللغويون والمراجعون والمخرجون والمبدعون الأكفاء. كما أننا لا نمتلك حتى الآن حركة ثقافية متكاملة فيها كل ما يحتاجه المبدع. إن المبدعين الشباب اليوم يقومون بمعظم الأدوار من كتابة وتصحيح ومراجعة واخراج ودعاية وتسويق وتوزيع حتى يصل الكتاب إلى يد القارئ. فمن الطبيعي حينها أن تلازم الأخطاء بعض تلك الأعمال. ويرفض الشيخ إطلاق الأحكام السريعة على النتاج الابداعي «فمن يمتلك الحق أن يقوم النتاج الابداعي فور صدوره دون مروره على القراء والنقاد والأدباء بل وطلاب الدراسات العليا والباحثين؟!! ليس لأحد الحق في منع المبدع عن الإبداع بحجة عدم توافر عوامل الإبداع في نتاجه. فكم من عمل إبداعي رفض من العديد من المؤسسات الأدبية لكنه حقق نجاحا لافتا بعد نشره». ويختم الشيخ بالقول: يجب ألا ننسى أن العملية النقدية تأتي في العادة متأخرة عن العمل الابداعي. فلم يزل النقاد وإلى اليوم يتناولون شعر امرؤ القيس وجرير والفرزدق رغم مرور قرون من الزمن على إبداعاتهم الشعرية. أعني أنه من المبكر الحكم على نتاج الشباب بمجرد صدوره من المطابع. ولا نغفر أخطاءه الصغيرة التي هي طبيعية في هذه المرحلة العمرية. فضائح ثقافية ويقول الروائي خالد الخضري: دور النشر هي في الأساس «بزنس»، ولا يهمها أصلا التميز أو تقديم عمل متفرد. الجانب الآخر يتعلق بالمبدع نفسه الذي بات الآن يهمه الشهرة، فالمتميزون من الكتاب الذين ينتجون بشكل مستمر في مجال الرواية ويقدمون أعمالا تستحق الاحترام بينهم وبين بعض تنافس غير شريف وكلهم ينظرون إلى الجوائز مثل جائزة البوكر التي يتحاسد الكتاب عليها، ويشنون حروبا ضد من حصل عليها بوسمهم بسمات وصفات تقليلا من شأنهم. ويضيف: أما الكاتبات اللاتي شوهن الابداع الروائي، وظهرت لهن روايات أرى أنها لا تستحق قيمة الورق الذي كتبت عليه، فهي تخلو من المستوى الفني واللغة والمعالجة الدرامية داخل العمل، إلى حد أن هناك روايات كتبت باللهجة العامية في معظم صفحاتها السردية. وهناك روائيات تقوم دور نشر بالكتابة لهن بمقابل مادي، وهناك كثير من الفضائح الخاصة بالوسط الثقافي ظهرت من خلال الانتاج الروائي الغزير في العقدين الآخيرين. لجان خاصة ويرى الشاعر حاتم الجديبا أن هناك تبايناً ملحوظاً بمستوى الجودة في الكتابة، وضعف الجانب اللغوي مع انعدام أو وجود انخفاض كبير في مستوى الإبداع. ويضيف: بعض دور النشر تتعامل برؤية تجارية بحتة مع الكاتب ومؤلفاته، وينصب اهتمامها بالأساس على الربح المادي وزيادة معدل إخراج وطباعة الكتب والمؤلفات بغض النظر عن مسألة الإبداع وجودة الكتابة. لكن في المقابل توجد دور نشر أخرى لديها لجنة تدقيق أو فحص لمستوى الكتاب، ويكون لدى هذه اللجنة مثل المعيار أو المقياس تقيس عليه هذا الكتاب من ناحية إعطاء الموافقة والإذن بطباعة ونشر الكتاب أو رفضه. ويبيّن أن هذه اللجان يتراوح مستواها وتقييمها الفني والإبداعي بحسب أعضائها وخلفياتهم الثقافية والإبداعية والعلمية. لهذا يجب على كل دار نشر أن تنشئ لها لجنة تقييم خاصة ذات كفاءة عالية أو تتعامل مع محكمين من خارج الدار من أجل النظر في الكتاب بحرفية عالية من ناحية التدقيق والتصحيح اللغوي، والأسلوب الفني للكتاب، ومن ثمَّ التفاعل الإيجابي مع الكاتب وذلك بتوضيح ملاحظاتها على كتابه، وإيضاح سبب الموافقة أو الرفض لهذا الكتاب؛ حتى نرتقي جميعاً بالمستوى العام للنشر الإبداعي والثقافي ومن باب احترام الثقافة والإبداع ودفع العجلة الإبداعية والثقافية للأمام، ولكي لا تصبح المسألة تجارية بحتة خالصة لا مجال للفن والإبداع فيها. ملاحقة الجديد الشاعر أحمد اللهيب أوضح أن «دور النشر الجديدة تبحث دائما عن مؤلفين جدد متشوقين للنشر والحضور الثقافي المتنوع، هذه العلاقة الجديدة في التأليف والنشر تجعل الكاتب من جهة والمؤلف من جهة أخرى يسعيان إلى الوصول لنتاج ثقافي دون التدقيق في النص المكتوب لغة وأسلوبا». ويضيف: السعي للنشر وعدم الاهتمام بمضمون النتاج الثقافي أيا كان، شعرا أو رواية أو نصوصا، يغرق الساحة الثقافية بكم هائل من الاصدارات التي لن تحظى باهتمام النقاد أو الكتاب، وربما تصبح هناك ردة فعل تجاه كل العمل الإبداعي الصادر. مؤتمر النشر ويقول الناشر سعود بن عبدالعزيز التويم: صحيح أن هناك تباينا في مستوى الجودة وضعفا في بعض المحتوى الأدبي والفني لبعض الإصدارات.. لكن هذا لا يعطي وصفاً دقيقا عن جودة وإبداع دور النشر الحديثة في ساحة الإنتاج الأدبي والثقافي. ويضيف: لدينا دور نشر حديثة والقائمون عليها يملكون الأدوات والمهارات الابداعية لخروج منتجات ثقافية تعزز المنتج الأدبي السعودي في المعارض العالمية والعربية والمحلية. نحن كناشرين نحتاج إلى مزيد من المؤتمرات المتخصصة بصناعة النشر يشارك فيها الناشرون والمؤلفون والمثقفون ومسؤولو الاندية الأدبية الثقافية واساتذة الجامعات وجمعية الناشرين للتوثيق والنقل والاستفادة من الخبرات وتجارب الناشرين الاخرين وتقييم الإصدارات حتى يتم إطلاع الجميع عليها ونشرها. ويؤكد التويم: اليوم تمر بنا مراحل الحياة وتنقلنا سريعا من مرحلة الى اخرى، ومن هنا تغيب أو تذهب الكثير من الكنوز مع رحيل الآخرين عن الحياة بسبب الإهمال والاتكالية. نحن نحتاج الى ان تتولى هذه المسؤولية الأندية الأدبية وجمعية الناشرين، فهذه المؤسسات هي الجهات المناط بها الجودة في المنتجات الأدبية وحفظ وتوثيق تجارب ونجاح الآخرين للقادمين في صناعة النشر من الأجيال الأخرى. مهنة وصناعة وقال الناشر محمد صالح: الطباعة والنشر صناعة مثل غيرها من المهن دخل عليها الغث والسمين وارتقى صهوتها كل من رغب في الكسب المادي. ويضيف: بالدرجة الأولى وهذا التغير الملحوظ ظهر في العشرين سنة الأخيرة فقد كان في السابق يدخل في مجال عمل من هم أهل له من كتاب وأدباء وعلماء شريعة، وقد كان الكثير من الدور لها قسم للتحقيق والتدقيق والتحرير العربي اللغوي. أما اليوم فإذا لم يقم المؤلف بذلك فإن الدار تعطي النص لمن يكسب ماديا ويهمه السرعة والإنجاز والتفرغ لعمل اخر وهكذا ذهب زمن أصحاب الرسالة والإبداع. ويستطرد: والعذر لهم عدم جدوى الكتاب والحماية الفكرية، ولو أخذنا لمحة موجزة على ما يعرض في المكتبات بقرب أي جامعة أكاديمية لرأيت المكتبات تغص بالباحثين الذين يعدون الرسائل والبحوث العلمية مقابل دراهم معدودة فأي علم وفن وذوق يرتجى؟! وكذلك مع عصر الحاسوب الآلي أصبح قليلو العلم يكتبون ويعتمدون على تصحيح الحاسب لكن من أين له التحرير العربي؟ فهو لا يعلم أين يضع بعض علامات الترقيم. وظاهرة أخرى أود ان ألفت النظر إليها وهي القص واللصق وتغيير العناوين وبقاء المضمون. وعموما السوق في تراجع ودور النشر من ضعف إلى ضعف، والقارئ على نفس المنوال.