يمشي سارحاً وكأن في رأسه أغنيةً أو موالاً.. يتمتم بشفاهه وكأن القصيدة في فمه تعويذة.. يسير بتؤدة وكأنه يقع على (الدُم والتك).. تقرأ في عينيه أطياف الشعر.. وتبصر المتنبي وأبا العلاء المعري، والبصيري وشوقي وحافظ، وتسمع من دقات قلبه طيور (بن مغلوث)، وحكمة (السديري)، وحسرة (زيد الحرب).. وفي روحه نغمات (القصبجي)، وأبيات (رامي)، وعالم (الكلثوميات)، وسامريات (المرطه) الخالدة.. تتهاوى صفحات عمره وكأنها صفحات الكتب التي كان يقرؤها.. والأوراق التي يداعبها.. وكأن كل نقطة وحرف وكلمة وجملة هي الوجود بأسره.. لا الجملة الخبرية، ولا الجملة الإنشائية تستطيع أن تظهر ما في قلبي، من كوامن الحقيقة، وتجليات المحبة في مقامك يا أبا حسين!. من الصعب أن تكتب عن مثقف أو تتكلم عنه! خاصة إذا كان هذا المثقف هو علي الطبيلي.. علي الطبيلي بدون ألقاب سوى لقب الإنسان الحامل لمنظومة متكاملة من الأحاسيس والحب والفرح والتفاؤل والأدب والفن.. من الصعب أن تكتب عن أب وصديق كان لك بمثابة الروح للجسد.. وكان كالغمامة الفياضة على كل الناس.. صغيرهم وكبيرهم.. شبابهم وشيبانهم.. بناتهم ونساءهم، ينصح ويوجه ويشجع ويفرح بنجاح المبدعين والطامحين، ويحتفل بميلاد المميزين من أبناء الأحساء.. ومن هنا فعلي الطبيلي رحمه الله لم يكن مثقفاً فردانياً.. أو مؤدلجاً، أو نخبوياً.. بل كان مثقفاً إنسانياً شعبياً منفتحاً على المجتمع بكل أطيافه وفئاته وطبقاته، ولذلك فقد عاش حياته وعمره مبشراً بالخير، وبالكلمة الجميلة، وبالقراءة الواعية، وذلك من أجل بناء أجيال الحاضر والمستقبل. نعم لقد كان الطبيلي واعياً بمفهوم الأجيال والمجايلة، ويعتز بجيل الشباب أيما اعتزاز.. تعرفت عليه وكان قد بدأ حياته الأولى في التقاعد من العمل، وكنت في بدايات دراساتي الجامعية، ولا تتحدث عن علاقتنا التي تكسرت فيها حواجز السن والتجربة، فكنا نتلاقى لساعات طويلة في مجلسه الرائع، لا تكاد صلاة العشاء تنتهي، وأقبل على مجلسه وبستان قلبه، إلا وساعات الفجر تكاد توقظنا من سكر الكلمة الجميلة، وتجليات الأدبِ، وتاريخ الشعرِ، والفكرِ، والخطابةِ، والأغنياتِ، وحوادث الزمان والمكان.. لم أكن بحضرة رجل عادي، بل كان موسوعة ثقافية ودينية واجتماعية.. كنت أستلهم منه الطاقة، والتمسك بمشوار صغير بدأت أتلمس طريقه في عالمي الأدبي، وكان يرى المستقبل في روحي وعيوني التي تظللت بنخيله الرائعة.. لم أعرف رجلاً شهماً يقدر الرجال ويحب الناس ويفرح بالمبدعين والمتميزين مثل علي الطبيلي.. مشاعره مفضوحة كشعاع الشمس، وعاطفته صادقة.. يحب أن يكون الإنسان إنساناً في اعتدال وتوازن، ويحزن أن يكون متشدداً عنيفاً على نفسه وأبناء قومه، اتسم الرجل بثقافة الحوار، فكان يحاور الأطفال والشباب والرجال والشيوخ، هل كان بثقافته الحوارية يفتل عضلاته وغروره ومعرفته بكل شيء؟ لا، ولكنه يضخ روح التحفيز والكينونة لتحقيق الذات في المقابل من أجل أن يكون أفضل منه ومن ثقافته. ولا تسل عن إطرائه ومدحه لكل من يلاقيهم وخاصة المبدعين. الإبداع والمبدعون، ونظرية الجمال، والتسلح بالمعرفة هي نظرية علي الطبيلي.. كان دائماً ما يؤكد على حتمية الإبداع، وجماليات الكلمة، وأن المبدعين هم رموز الوطن، وأن معركة الحياة تستلزم التسلح بالمعرفة، وأن الثقافة ليست كلاماً على الأوراق، بل هي روح يتبناها المبدعون، ويبشرون بها من أجل الإنسان، وليس من أجل الفئوية أو الطائفية أو الحزبية. اللهم اغفر لعلي الطبيلي وأحسن جزاءه.. فقد كان حسن الظن بك يارب، اللهم اجبر مصابنا فيه، واجمعنا به في جناتك جنات النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.