إلى سعاد القرعاوي، حلم نجدية أخرى منذ التحولات الاجتماعية التي تبدت منتصف القرن العشرين الماضي لحال الرجال والنساء كمجتمع ينتقل من القرى الزراعية والبوادي الصحراوية في الجزيرة العربية على أن هناك مدنيات قديمة لكنها معطلة على الموانئ سكونها وحركتها، متحولة إلى قوى اقتصادية أخرى بحسب الاستراتيجية السياسية. تمتعت العربية، بدوية أو فلاحة بمميزات كثيرة، غير دورها المملى من الطبيعة في كونها أما وأختا (أو زوجة)، فهي الراعية والفارسة، التاجرة والصانعة، كذلك المزينة والراقصة، الشاعرة ودقاقة الطار.. والتضحية الكبرى التي تقدمها في الحياة تكشفها حال الانتقال إلى الحضارة التي تخسرها الكثير من المزايا في القرى والصحراء، ويقول ابن خلدون: «صار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة». وإ تذكرنا بعض المواقف الإنسانية بين البطولة والشرف النسائيين في عصر البداوة كما روى ديكسون (أو أبوسعود) عن تضحية العجمية منيرة بنت عيده التي يموت أطفالها لأسباب غامضة فقيل لها أن قطع شحمة الأذن ولفها بتمر وأكلها تمنع موتهم، فعملت وعاش آخرهم، وعن وفاء نورة الحوشان العقيمة التي طلقت من زوجها قهراً وراحت قصائدها تنشد على مر السنين، ولاننسى ما رواه تركي الحمد في رواية «شرق الوادي» عن عليا الشودرية المجنونة بولدها المختفي ثم راحت ترصع القصائد في ذكره أو موضى السام وإجارتها بدافع النخوة والشرف بعض الهاربين من قتل الغيلة والغدر. تلك المرأة التي غدت حكاية من الماضي، ربما تحولت أسطورة مثل زنوبيا أو زرقاء اليمامة، فهما من عصر بات بعيداً، وامرأة اليوم هي امرأة المدينة التي وقعت بين كفي الرجال الجدد، عصر الفحولة الجديد، وأبرز تطوراته الاجتماعية تجاهل الماضي وحجب المؤنث كما تقول فاطمة المرنيسي، وما كان ذلك إلا من سوس البطركية (أو الأبوية المستحدثة) كما يقول هشام شرابي، فتوجب أن تتغير الاستراتيجيات الدفاعية أو الهجومية على صعوبة كبرى ما بين تلقين القمع المستديم وضرب التمرد الفردي، وما تفلت بين ذا و ذاك سوى بعض الخطابات التي تؤلفها المرأة في عصر التحضر عبر بروز في مجالات المدينة وهذه التحولات التي ربما طال فهم فعالية أدوارها لأسباب عدة ذكر بعضها سابقاً ونذكر منها غياب التراكم النموذجي وصياغة الامتداد والتحول منه، ما بين النقد الذاتي وإعادة التركيب النموذجي. ولعل صدى تلك التحولات المدنية في دور المرأة، هو التحول من مفاهيم وأدوار عهد القيان والسرائر إلى مفاهيم وأدوار عهد السيدة والحرائر، وحين نراقب منالات المرأة العربية فهي تتخذ وقتاً طويلاً في الخليج لتثبت دورها خلال الثلاثين سنة التي مضت نحو استحقاقات معطلة. منذ هذا التحول الفني والاجتماعي كان يتوجب ضرب مثال فعالية بظهور صورة الممثلة وترسخ أهمية دورها منذ الستينات في رموز مريم الصالح وحياة الفهد إلى زهرة الخرجي وأحلام حسن، ومن ثم دور المغنية وتكرسه عبر المناسبة الوطنية (الأوبريتات الغنائية) وهذا ماحدث مع سناء الخراز بدخولها المعهد العالي للموسيقي منتصف السبعينات الذي انعكس على ترسيخ دورها خارج الإطار في السياق التجاري لحظة التحول التقني والوسائلي من عصر الأسطوانة والإذاعة نحو (عصر الكاسيت والتلفزيون) وهذا ما أنجزته رباب بداية الثمانينات في انتقالها من مؤدية كورال -1978 (سنة وفاة عائشة المرطة) إلى مغنية منفردة «اجرح - 1980»، وهذا المرحلة الحاسمة هي التي وضعت حدا أوشقت خطا يوازي بالتخطي صورة «دقاقة الطار» التي كانت تحتل الموقع الغنائي، أفراحا وأعراسا كذلك صورة «الملاية» التي تملأ دورها في الجانب الآخر أتراحا في العزاء وتحميدا في المديح النبوي أو ختم القرآن الكريم وهذا ما أتاح لصف آخر يفد ممثلا تلك الميزات بتنوعها مثل ابتسام لطفي (السعودية)، عالية حسين (الكويت) ثم فتاة سلطان ونوال (الكويت) وهدى عبدالله (البحرين )، وأخريات يفدن ما بين فترة وأخرى (هند، رويدا المحروقي ورنا فاروق)، وهذا لم يقض على دور «دقاقة الطار» الذي ما زالت تتشبث به على أن التطورات لن تغفل من دور المغنية المتمدنة والرغبة بوجودها في إطار حفلات أعراس تجاوزت مفهوم الزفة و القاف (دق إنهاء الزفة) إلا أن دور «الملاية» بات يحاصر وينحصر في إطار تقاليد عاشوراء النسائية، ولايمنع من تطور في جهة أخرى إلى المرأة الداعية (أو المطوعة) التي تتخذ صيغة المعلمة أو الموجهة، فما بعد تحولات اجتماعية جدت في علاقة الإنسان بمدينته ومن ثم دولته وكان الاختبار يقوى في الصراعات السياسية ممثلة بالحروب، وهذا ماتجلى في الحرب الأهلية في لبنان أو حرب الخليج الثانية (العراق - الكويت) وما سيتجلي في حرب الخليج الثالثة لدور المرأة العراقية لاحقا. إذن، ذلك الذي تطور في صورة الممثلة والمغنية محاذيا لدور الروائية والرسامة كذلك المعلمة والعالمة، الصحفية والمخرجة وما سوى ذلك. فإذا كانت التحولات الاقتصادية ومفاهيم السوق العالمي انتحت إلى صيغ العولمة سواء في مراتب صراع الإيديولوجيا أو منافسة الورق المالي إلا أن الجانب الصناعي كخامات وإمكانيات أو الجانب التقاني كخدمات ووسائل بات يفرض آلاته، فالتطور في شقيه الصناعي والتقاني من عصر الكاسيت والتلفزيون إلى عصر السيدي والفضائيات له مؤثراته القوية على الغناء وتحويل صيغه وأشكاله، وهذا ظاهر منذ عصر الأسطوانة والإذاعة في المنتصف الأول من القرن العشرين الذي لم ينته من تصورات الصالون الغنائي (العراق والشآم) أودور الطرب (في الخليج واليمن والحجاز) أو التكايا والخانات (في مصر وشمال أفريقيا). إن موضوعة الغربة والجروح في أغنيات رباب كانت تسجيلا لماحا وذكيا عن حالة الانتقال من الحالة البدوية والريفية إلى الحالة المدنية٭، وهذا ما تجلي في صوت رباب وكلمات أغانيها ونغمات ألحانها، وعندما جاءت نوال منتصف الثمانينات على قدرما هو خطابها الغنائي من مراوغة وتنوع إلا أن السمة التي ظهرت بينة في استئنافها الغنائي الكبير منذ منتصف التسعينات - وحتى الآن-، تكاد تشتغل على موضوعة القهر والندم٭٭ التي تعيد صياغة السؤال النسوي حول الدور المهدور بالحجب أو الوعاء السلبي الأنثوي كما تقول رجاء بن سلامة، وهذا بين نصوص أغنيات من نوع: «أنا مليت من قهري أدور في هواك إنسان» (ياتاعبني، شعر: هتان) أو: «ما انت أول حب يروح - ما أنت آخر حب يروح» (الله حسيبك، شعر: ساهر). إذا ما كان دور «دقاقة الطار» التي رصدت أجلي تحولاته السيدة عائشة المرطة (1934 - 1978) خلال أواخر الستينات، وشكلت خطابا استعاريا في أكثر صيغة، لكونها تغني مشتركا شعريا وموسيقيا، كالسامري والخماري، وما كانت لها فرصة تكريس موضوعة كاملة سوى ببعض الأغنيات القلائل اللواتي بقين لها، والتي تسمح لنا وضعها في إطار موضوعة الهامش والعاجز، وهذا ما تسجله أغنيات من نوع: «أنا ياخلي ماقصرت، منسية، بالعون»، ومجيء أو ظهور أحلام (البحرينية الأصل) كان محاولة الامتداد من رجس ذلك التهميش و التعجيز، ولا أبلغ من ذلك سوى دلالة تحول كلمات أغنيتها الأول «أحبك موت» التي ظهرت بها مأخوذة من تراث والدها المغني البحريني الشعبي علي بن هزيم: «أنا لولاك عمري ما رهنته - ولاظليت عندك ساعتيني يا ولد الناس في حبك (...) - أما تخشى عذاب الله فيني؟» إذا ما تمعنا في النص ما بين العبارة الشعرية: «رهن العمر» (موضوعة الهامش) والاستنكار بخشية «عذاب الله» (موضوعة العجز) إلى النص الشعري الذي كتبه عبداللطيف البناي (الشاعر نفسه صاحب أول نصوص غنتها رباب ونوال) من أجل أغنية أحلام الخاصة بها ولو كانت على اللحن القديم الذي أعاد أنور عبدالله توزيعه وبدل إيقاعة إلى البستة (رقصة خليجية) وجاءت صيغة الكلام بهذا الشكل: «أنا ربي بلاني فيك بلوة - عشقتك والعشق أكبر مصيبة أحبك موت وقليبي يتكوى - بعيد إنت وأنا منك قريبة» وهذان السطران الشعريان (أو البيتان الشعريان) يلخصان موضوعة المحنة والنحس، منكفئتان في راد يكالية ثورية ذات طابع نسائي شعبي لتعبر عن ذلك الدور الهامشي والعاجز للمرأة العاملة في سياق (دق الطار). وإذا كانت مرحلة ظهور هدى عبدالله تشكل حدثا لكونها انشقاقا داخليا من سياق غناء الحنجرة النسائية في الخليج نحو الشمولية عبر الحداثة والتطور الإبداعي في جوف تقاليد التحضر ذات المستوى والقيمة الكلاسيكية، وماهي عليه من حالة التحييد والتحجيم سوى مرحلة كمون ستشهد انفجارا ما بعد نفاد جهوزية الإطار التقليدي عند نوال والفروع الأخرى: أوسمر. أما في حالة أحلام، فإن شعور المحنة والنحس في نموذج المرأة العاملة ضمن مهنة ورثت الكثير من صور التحقير والدونية الاجتماعية لدواع عرقية ومادية، فغلب على «دقاقة الطار» أن تحمل إثم الرقيق الأفريقي. وماكان ظهور أحلام إلا محاولة لكسر الذاكرة الخليجية لتلك الصورة وتأكيد حال تبدل تابع إلى صيغ التراتب الاجتماعي داخل تكوينه الإثني (العجمي) والتأصيلي (الاستعرابي).وليس يغيب عن كثير من النصوص الشعرية التي تتغني بها أحلام عن الهاجس هذا على أنها إذا ما كانت ستنوع تختل الموازنات الفنية٭٭٭، بالتالي تخرجها من ثوبها أو الإطار الذي انطلقت تستعيده بعد حالة خمود له منذ موزة سعيد (الإمارات) وعائشة المرطة (الكويت).وما كان ظهور شمس، المغنية الكويتية الشابة سوى امتداد لهذا الإطار، مع تطور ملحوظ في محاولة خوض غمار التجربة من منطلقات تأخذ في اعتبارها، الكسب الفني سمعة والكسب الاجتماعي مرتبة، وهذا ظاهر في تجليه الأول سعيا إلى التعاون الفني مع مشعل العروج (السمعة اللحنية) والثاني هو التحول إلى تطوير حدود المناسبة من فرح أو عرس إلى عيد ميلاد الحبيب (حين تذكر العبارة الإنجليزية المأثورة) في أغنيتها: «بوسة» (المرتبة الاجتماعية). إلا أن أول ماهو ملفت ذلك البعد السياسي في تسمية غلاف المجموعة الغنائية لها: «مظاهرة نسائية» وتجييش رموزها الثورية تمظهراً بصورة اللباس العسكري المموه وحمل البندقية على الكتف إضافة إلى رفقة الأسد، وهذه الرمزية تنضح ما بين صورة اللباس العسكري والبندقية (رمزية الدفاع والاستعداد) ورفقة الأسد (رمزية القوة والكبرياء)، وما كانت صورة الغلاف إلا تحقيقا لمضمون أغنيتها: «مظاهرة نسائية»، إذ تكشف إحالة الضمير في عبارة: «هذا هوانا من يوقف ضده» إشارة المظنة إلى «هوى الحريم» على أن ذلك متاح لتصورات أخرى لكون الشاعر رجلا، هو جمعة مانع الغويص، ولايمنع حجب أسلوب التهديد و الوعيد حين تتحدث عن تقدير الحفاء لودار في البال كما تقول كلمات الأغنية إلا أنها سوف تعبر بكثير من التعبير القاسي الذي يواجع صعوبة القبول الاجتماعي، وهو تعبير اللعن: «وأقول لابو الحب لابوجده» الذي هو تقدير من جملة: «لألعن الحب وأهله»، ونذكر ذلك التمرير الساخر والذكي في فعاليته من خلال مشهد لعن الحماة (مضاوي أوعبدالعزيز النمش) لزوجة ابنها صالح (لولوة إحدى بنات حمادة) عبر مقولها: «أبو أبو أبو» خلال كامل المشهد بعد استطرادات: ردها على الهاتف ومحادثة حصة (ابنة زوجها). إلا أن التوقف عند مسألة المضمون هذه لاتبعدنا عن موضوعة المحنة والنحس التي تتكرس عبر النموذج السابق ولاتختفي عندما نبحث عن تنويعة عليها في موضوعة الهامشي والعاجز، ترتسم لدينا مضامين التابو الجنسي «عين فراش» والضعف في «الله حي» التي هي استعادة لخطاب قديم من جديد بذات التكريس والتسرب. عندما نرى المضمون المكبوت حول التابو الجنسي يتخذ ذريعة في أغاني الأمكنة الهامشية، مثلما عرف قديما أوائل القرن العشرين الماضي: «اغنم زمانك» أو «ياغزال نطحني» مرورا بالستينات والسبعينات بأغنية: «حبك سباني» أو «أنا ودي إذا ودك» حتى نهاية التسعينات بأغنية: «تحت الصفر» أو «عين فراش» التي توحي بتبدل استراتيجية البورنواغناء ما بعد الحداثي (على أن النص بضمير رجل ظاهر أقوى)، وما توفر لذلك سوى التطورات الغنائية في الأداء والتوزيع الموسيقي، وهذه اللحظة الفنية تحرج نفسها سواء من ظروف التقائها أو افتراقها لكون ما يجمعهما ويباعدهما خيط من الهشاشة والتقنع، وما كان يسمى ذلك الغناء بمصر أوائل القرن الماضي ب «غناء العوالم» أو في الخليج «غناء الدشير» بديلا عن الخمارات و الملاهي الليلية المعوض عنها. استطاع مشعل العروج، ونحن هنا نرصد التقنية الفنية لامضمون النص وأهدافه، عبر وضع تسجيلين من تكثيف إيحاء حالة درامية عبر استخدام المؤثر الصوتي بداية العمل وأوسطه (ماقبل مقطع: من شوفك يروق البال)، وتوظيف إيقاع الزار (الخبيتي في صيغته الحجازية)، وهذه الرمزية تحيل إلى الفوضي التي تنفلت بها الغرائز من دعاوي شهوية، والمحاولة تعدت إلى استخدام ربع الصوت والحس التمثيلي في أسلوب الأداء إضافة إلى الغناء على تأخير النبر (السنكبة)، ولا أعرف إذا ما كانت حيلة فنية ذكية ليتجنب مطبات في صوت شمس لايمنعها الظهور قلة التدرب أو استيعاب اللعبة الغنائية، لكن إبقاء تسجيل آخرما قبل الأغنية الأخيرة من الوجه الثاني يؤكد أنها الصيغة الأولى في تسجيل الأغنية أما الثانية المحققة لهذه اللعبة الفنية التي يحبها مشعل العروج أكدت أن محاولة كسر الطابع الرتيب في الغناء والموسيقي الخليجيين كما تبدى في اقتراح صيغة مخففة من أداء غناء البلوز الأفرو - أمريكي في أغنية: «من قدك» أو إقحام طابع الغناء المغربي في إطار الغناء الصوفي عبر أغنية: « الله حي»، هي محاولة لاتضمن الخطر من ذلك الخيط من الهشاشة والتقنع لايفيده ولايبنيه كلمات الإطراء والامتنان إليه الموضوعة في غلاف الشريط إلا لكونها محاولة أكيدة استخدم فيها الفنان والمبدع في مشعل العروج لتحقيق مكاسب فنية و اجتماعية خاصة بشمس وحدها. أضافت شيئا مهما ربما كان قوته الوهم في الشغب والمزيد من تمرير أساليب التقنع لجيل جديد من «دقاقات الطار» تبدلت مفاهيمه وأدواره الاجتماعية والفنية أيضا. ٭ تظهر التنويعات الجانبية في صورة الوحدة والألم في مثل أغنيات: «كل خميس»، «لاتحاسبني»، «غيرت عنواني». ٭٭ كذلك تظهر التنويعات الجانبية في صورة البحث عن الأفرموية (اتحاد رجل + امرأة) في مثل أغنيات: «شمس وقمر»، «أعرف رجلا»، «ياسيدهم وينك؟». ٭٭ النماذج على ذلك قليلة وتقع على هامش أولوية أغانيها سواء في ترتيب الكاسيت أو الحفلات: «لما قلبي»، «والله أحتاجك أنا».