لأن منطقة الخليج، واحدة من المناطق الحيوية في العالم.. باحتوائها على قرابة ثلث إنتاج العالم من النفط.. ولأن هذه المنطقة أيضاً تحمل على أرضها تشابهاً كبيراً يكاد يصل إلى حد التطابق بين شعوبها وأنظمتها السياسية.. ولأن هذه المنطقة، تمتلك إرثاً عريقاً من التقاليد الواحدة، والموروث الاجتماعي الضارب في جذور التاريخ، يتشارك فيه كثيرون، ربما يختلفون، اختلافاً طبيعياً، كاختلاف البشر، لكنه يبقى متمسكاً بالجذور العميقة.. ولأن ما يقارب ثلاثة عقود، مرّت من الزمن، تماسكت فيها دول الخليج، وتمسكت بالصيغة التي ارتضتها لنفسها، عبر كيان يجمع الشعوب والدول، ليضمن لها على الأقل نوعاً من التمازج السياسي في مواجهة تحديات إقليمية ودولية شائكة.. ولأن هذه المنطقة، بعد مرور كل هذه السنوات، التي شهدت فيها ثلاث حروب عاتية، بدءاً من الحرب العراقية الأولى، حتى حرب العراق وسقوط بغداد، مروراً بغزو الكويت وحرب تحريرها، أضحت مثقلة بالكثير من الأعباء، التي أرهقتها، ولن نبالغ إذا قلنا : إنها عطلت مسيرتها التنموية، وألقت بظلالها الكئيبة عليها بشكل بدا في نظر مواطنيها مزعجاً ومقلقاً للغاية، ولكل هذه الحقائق الجيوسياسية، جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، لقادة دول مجلس التعاون الخليجي لاستثمار الفرصة المتاحة، وتجاوز مرحلة «التعاون» إلى مرحلة «الاتحاد»، ليتحول المجلس بالتالي، من مجرد كيان إطاري، إلى كيان اتحادي، يستفيد من التجربة الماضية، ويتفق مع حقائق التاريخ والجغرافيا، والمصلحة الإقليمية لدول الخليج، ليحقق بالتالي حلم شعوب المنطقة واندماجها في كيان واحد، ذي ملامح واضحة ومؤسسة. باختصار، مثّلت الدعوة، إدراك المتبصر وصاحب الرؤية بعيدة المدى، بالحاجة الفعلية، ليس في مكانها فقط، لكن في توقيتها أيضاً. درس تاريخي خبراءالسياسة والاقتصاد، يؤكدون أن عالم اليوم، لا مكان فيه لغير التحالفات القوية، وهذه التحالفات لن تأتي بغير الاتحاد، لا مكان لغير الترابط والوحدة، الأمثلة الناجحة في العالم من حولنا، لا تعترف بغير ذلك. وإذا كان الأوروبيون مثلاً، أدركوا نوعية هذا التحول في وقت قياسي، ونجحوا في القفز على جراحاتهم واختلافاتهم وأيديولوجياتهم، ولغاتهم وعقائدهم، حتى وصلوا إلى الاتحاد الأوروبي، كنموذج أثبت نجاحه، فما بالنا ونحن دول الخليج في مركب واحد، ونعايش التقارب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في أقصى درجاته؟ في علم السياسة، يقولون : إن "الاتحاد" هو حائط الصد الوحيد، ضد الأطماع، وفي الاقتصاد، يقولون : إن الاندماج، وسيلة لتحقيق التكامل، وفي علم الاجتماع يقولون : إن وحدة المكان أو الإقليم تستوجب بالتالي وحدة الشعوب. الأوروبيون أدركوا ذلك، رغم ما كان بينهم من حروب، جعلت القارة الأوروبية مسرحاً لأعتى حربين عالميتين في تاريخ البشرية، حربان دمرتا الأخضر واليابس، وحصدتا أرواح الملايين وفي غضون أقل من نصف قرن، وامتدت آثارهما وخرائبهما إلى نواح عديدة من العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوباً. نجح الأوروبيون فيما فشلت فيه نماذج أخرى، وعربية تحديداً، كان مجلس التعاون الخليجي، النموذج الأنجح والأكثر صموداً، قياسا بتجارب أخرى، ذهبت في مهب الريح، مجلس التعاون العربي غير المأسوف عليه، كان أضحوكة، ومات قبل ان يولد، لأنه تأسس ( من العراق ومصر والأردن واليمن، ثم انسحبت منه مصر لما أدركت المخطط ) على أطماع إقليمية، ورؤى تصعيدية، تعتبر التفوق العسكري أو ما يعرف بتفوق القوة، وحده، عنصراً رادعا لتخويف الآخرين، ونهبهم، واستلابهم أيضاً. الاتحاد المغاربي، بات منذ تأسيسه حبراً على ورق، ولا يزال في غرفة العناية المركزة، لأنه قام متسرعاً، وتحقيقا لشعارات قبل أن يكون تلبية لحاجة شعبية واجتماعية، ورغم أنه يتشابه مع مجلس التعاون الخليجي في وحدة الإقليم الجغرافي، إلا أن الأبعاد السياسية وتضاربها، عجلت باحتضاره، بل إن الخصومة بين بعض دوله، وصلت إلى حد التهديد بالحرب وإغلاق الحدود. المشترك الخليجي وإذا كانت شخصية مثل رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، تحدثت يوماً عن "الرابطة الفضفاضة"، حيث سيكون هناك تقاسم للأدوار، وعدم احتكار للقوة، وأن هناك ما يجمع في فضاء غير محدود، يشارك فيه الجميع بفعالية وإيجابية، وهذا ما كان واحداً من مقدمات الوحدة الأوروبية التي تحققت، فإن منطقة كالخليج تتفوق في عناصر التقارب، أكثر وأكثر، ذلك أن الخليجيين اليوم وكما قال كتّاب يمتلكون الأيديولوجيا والاستراتيجية الموحدة، والاقتصاد الخليجي أحدث ذلك المناخ الفلسفي الذي يضع الاقتصاد والسياسة في «سلة» واحدة، ولم يعد لدى الخليجيين مكان للشعور بالعظمة أو عقد النقص، لأنهم أدركوا أن الأخذ بهذه المشاعر سيحيل التاريخ إلى شكله الأفقي، والشكل الأفقي هو اللا تاريخ.. والآن يتجه أبناء الخليج إلى صناعة المستقبل المشترك كما هو الاتجاه إلى صناعة الطائرة المشتركة". صناعة الطائرة تلك، هي ما قصدها خادم الحرمين الشريفين في دعوته الأخيرة، لأن استمرار البقاء على الأرض، وباستخدام نفس السيارة، والاعتماد على تحسينها فقط، دون تحديثها أو تغييرها إلى الشكل الأفضل، لا يبدو ملائماً بعد كل هذه السنوات الطويلة، لذا كانت دعوته إشارة مهمة لقادة دول التعاون، لاستيعاب ضرورات المرحلة والقفز على الصورة النمطية الذهنية التي سادت طيلة ثلاثة عقود من الزمان، تبدلت فيها دون شك كل المعايير وموازين القوى وتقنيات التحدي نحو المستقبل. طائرة الاتحاد الخليجي التي دعا لتوطينها الملك عبد الله بن عبد العزيز، لا يمكن إلا أن تكون عبر محطات دول الخليج، ذلك أن ما كان يصلح قبل ثلاثين عاماً، يصبح الآن من الضروري التفكير في استحداث غيره، دون إهمال ما كان، بل الاستفادة من أسس البقاء التي أوجدها مجلس التعاون الخليجي، إلى إيجاد محاور الوجود والمشاركة في صناعة التاريخ على هذه الأرض، بمساهمة جميع أبنائها. «قد علمنا التاريخ وعلمتنا التجارب ألا نقف عند واقعنا ونقول: اكتفينا، ومن يفعل ذلك فسيجد نفسه في آخر القافلة ويواجه الضياع وحقيقة الضعف, وهذا أمر لا نقبله جميعاً لأوطاننا وأهلنا واستقرارنا وأمننا، لذلك أطلب منكم اليوم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله». ( عبد الله بن عبد العزيز ) موقف استباقي وعبر استقراء التاريخ بتأنٍ، نجد وكما قال محللون أيضاً أن "التشابه الديني والثقافي والاجتماعي بين شعوب دول الخليج العربي أتاح لها عام 1981 تخطي مرحلتي التعارف والحوار إلى «التعاون» الخليجي، والآن، فإن ثلاثين عاماً من التعاون تتيح لها تخطي مرحلة التحالف إلى «الاتحاد» الذي دعا إليه الملك عبد الله بن عبد العزيز". قراءة التاريخ أيضاً، تضعنا أمام مصادفة غاية في الأهمية، وهي حسب محللين أنه لم يكن عشوائياً توقيت ولادة مجلس التعاون الخليجي آنذاك (1981) بعد عامين فقط من الثورة الإيرانية، وليس عشوائياً أو عبثياً الآن توقيت الدعوة إلى اتحاد خليجي، بعد يومين فقط من الانسحاب الأمريكي من العراق وتسليمه للأصابع الإيرانية". ربما تكون إيران الآن خاصة بعد مأزقها في سوريا، وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق تسلمت الملف العراقي ووضعت يديها عليه بشكل كامل، بعد تلقفت الهدية الأمريكية، وإغراءاتها، كأن تتخلى مثلاً عن ورقة الأسد الآيلة للسقوط، مقابل "طُعم" العراق، الذي قد يحقق لها نشوة تاريخية لم تكن تحلم بها، في فترة تصفية الحسابات الدفينة والمتوارثة مع العرب تحديداً. ولهذا، قد يكون التحرك الخليجي نحو كيان "اتحادي" هو تطوير لموقف دفاعي يجب على العرب أخذه، وبشكل سريع، لأنه لم يبق في البوّابة الشرقية عملياً، سوى دول الخليج، التي كتب عليها أن تدفع ثمن الأحلام الإيرانية المتتالية، سواء في الحرب، أو في السلم. هنا، تكون دعوة خادم الحرمين الشريفين أيضاً، نوعاً من الاستعداد الاستباقي لما قد يحدث في الأيام المقبلة، في ظل استمرار الجنوح الإيراني للتصعيد، بالقول أو بالفعل. قد يقول قائل: إن «التعاون» خلال ال « 30 » عاماً الماضية لم يكن تعاوناً بين الدول بما فيه الكفاية لتطلعات الشعوب، وقد يقول آخر : إن البطء الشديد، الذي اتسم به عمل مجلس التعاون، وتأخر تسريع اتخاذ الإجراءات الكفيلة برفع سقف المطلوب من المجلس عملياً، ربما يكون من أهم الأسباب الداخلية، التي عجّلت بظهور الدعوة للاتحاد إلى العلن، بهذه الصراحة، وقد كان يمكن أن تكون في إطار تشاوري أولاً. عنصران استراتيجيان لكن المتابع لفكر ورؤى خادم الحرمين الشريفين، يلاحظ أنه لا يعتمد سياسة الصدمات المفاجئة أولاً، وثانياً. إن دعوة كتلك، لم تكن لتأت لو لم تكن قراءته الجيدة للواقع الإقليمي والظرف السياسي والاجتماعي، بمثل هذا الوعي الشديد بمتطلبات المرحلة، وأهمية قرار في مثل هذا التوقيت تحديداً. كما أنها ثالثاً، جاءت من داخل المنطقة الخليجية، ومن زعيم يشهد له الجميع بإخلاصه وحرصه، ووعيه الدائم بعنصرين هامين للغاية، يعتبران الأساس في أي تغيير ضروري، ولهما امتداداتهما الاجتماعية وقبولهما الشعبي العام في الوسط الخليجي عموما، وربما العربي أيضا.. وهذان العنصران هما: الرغبة Desire ثم القدرة Ability. الرغبة الشعوب الخليجية بأكملها، تمتلك الرغبة في تحقيق هذه الدعوة الاتحادية، لأنها بصراحة ملّت من تكرار التصريح بحلمها في الوصول لهذه النقطة، لأن طبيعة التكوينات الجيوسياسية والثقافية للمنطقة. كما يرى خبراء وعلماء اجتماع، "تلائمها صيغة «الاتحاد» أكثر من صيغة «التعاون»، إذ إن الأخير يجعل الباب موارباً للمزيد دوماً من المماطلة والتجميد بغية التحلل من خسائر «تنازلات» التعاون والتنسيق المشترك، فيما تبدو صيغة «الاتحاد» أكثر صرامة في الالتزام بالاتفاقات المشتركة، أي في جملة قصيرة : (إن التزامات التعاون اختيارية، فيما التزامات الاتحاد إجبارية)، وقد رأينا كيف أن الاتحاد الأوروبي بات يناقش جدياً الآن إخراج بعض الدول الأوروبية من اتحاده لأنها لم تلتزم بتشريعات الاتحاد الاقتصادية. فرنسا وألمانيا تقولان لليونان المهددة : إذا لم تكوني قادرة على الالتزام بقوانين «الاتحاد» فلتخرجي منه، وسنبقى ملتزمين معك بقيم «التعاون» المشترك. وإذا أضفنا إلى ذلك حسب الخبراء أيضاً عنصراً لا يقل أهمية، وهو "طبيعة الظروف المحيطة بالمنطقة من الربيع العربي والخريف الإيراني والشتاء الأمريكي والصيف العراقي الذي سيفرض على عدد من القيادات العراقية التخلي عن ملابسهم جراء الانسحاب الأمريكي... اللافت في توقيته الآن"! القدرة وهذه لا خلاف عليها، ذلك أن لدول الخليج القدرة الكاملة على تحقيق هذا الاتحاد، وتحمل تكلفته، خاصة أن التحديات المتزايدة على المستويين الاقليمي والدولي، تفرض مثل هذا التوجه. تجربة مجلس التعاون، نجحت في إكساب دول الخليج، مزيداً من الصلابة الجيوسياسية أولاً في مواجهة الأحداث، والتعامل معها بنظرية الأواني المستطرقة، صحيح أنها تحملت لتحقيق هذا التوازن ما لا يطاق، لكنه كان في النهاية طوق النجاة للنفاد من الأزمات. العنصر الأهم في تحقيق عنصر القدرة، هو أن دول مجلس التعاون الخليجي، قطعت أشواطا وقفزات مهمة للغاية ولا يستهان بها من أجل التطور وتحقيق التقدم، وباتت عملياً في مصاف متقدم للغاية، بغض النظر عن أسباب هذا التطور، وكل هذا يستوجب نوعاً من الأمن والسلام والاستقرار، الذي سوف ينعمس دون شك على المحيط العربي والإسلامي والدولي أيضا. كما يضمن نوعاً من التوازن الاقتصادي، خاصة في سلعة حيوية ورئيسة كالنفط، يهم العالم أجمع ألا تتأثر بالقلاقل أو التوترات. الدعوة والمستقبل وهنا وبعد كل ذلك، نستطيع أن نفهم، لماذا تعمّد خادم الحرمين الشريفين مكاشفة الزعماء الخليجيين ومصارحتهم بحقيقة الاستهداف، عندما قال : "إننا مستهدفون في أمننا واستقرارنا"، وكأنه يقرر شيئاً آخر، وهو أنه رغم ذلك، فإننا نملك خياراتنا، لأنه إذا كان الأمر لا يقتصر على التحديات الخارجية المستترة أو التدخلات السافرة، إلا أن هناك إرادة وعزيمة نمتلكها، وهي وحدها كفيلة بتطوير حياتنا ووضعنا على طريق المستقبل. لقد كانت الدعوة للانتقال من مرحلة التعاون الى مرحلة الاتحاد، تنم عن وعي كامل بطبيعة التطورات الاقليمية والطموحات الداخلية في المجلس من جهة، وتكالب القوى الاقليمية والدولية على الساحتين العربية والخليجية من جهة أخرى، تفرض بالضرورة تطوير تجربة التعاون الناجح بين دول المجلس، لتتحول الى اتحاد أكثر قوة وصلابة وتنسيقاً، يمكنه من جهة أن ينقل دول الخليج إلى مرحلة يستطيع من خلالها أن يحمي دوله من الاستهدافات وما أكثرها، ويمكنه أيضاً ان يرفد الوضع العربي بالدعم والقوة أيضاً وفي نفس الوقت. وإذا كان البعض قد تحدث يوماً عن تلك الملاعق الباردة التي يمكنها أن تعبث بالخرائط، قفزاً على كل ما هو مشترك من وحدة الدم، العروبة، المصلحة العليا المشتركة، والانخراط في وحدة متكاملة. وإذا كان آخرون قد أسهبوا في الحديث عن "الفزّاعة" لإيجاد نوع من الخلل أو عدم الثقة في الذات أو في الإمكانيات أو القدرات. وإذا كان كثيرون، نظروا يوماً إلى ما تحت أقدامهم مستهينين، بهذه المنطقة، واعتبروا أنها فقط عبارة عن برميل من النفط فقط، متناسين أن عناصر القوة الكامنة، قد لا تكون ظاهرة للعيان، لكنها موجودة للاستدعاء وقت الحاجة. إذا كان كل ذلك قد حدث، إلا أن الدعوة للاتحاد، جاءت لتفصح عن الجزء المسكوت عنه في طبيعة العلاقات بين دول مجلس التعاون فيما يتصل بالتشريعات والقوانين والحدود المفتوحة والدفاع المشترك الذي يمكن أن يساعد في تحقيق متدرج لاتحاد ضروري وملح، بل وأشد ما نكون أحوج إليه في هذه المرحلة بالذات. من كل ذلك، نخلص إلى الحقيقة الواجبة والضرورية التي وعاها خادم الحرمين الشريفين، بحكمته، وسياسته، ونظرته الثاقبة، وتطلعه إلى أن يصبح الاسم «دول مجلس الاتحاد الخليجي»، أو الاتحاد الخليجي، هكذا ودون مقدمات أو رتوش، وحدة على المستوى السياسي والاقتصادي، كما هي وحدة موجودة على الأرض بين الشعوب والأفراد والأوطان، منذ قديم الزمان، وأن الوقت قد حان للتنفيذ دون تردد. الشجعان فقط لا يترددون ولا يتأخرون.
خادم الحرمين الشريفين يرأس اجتماع القمة التي عقدت بالرياض