من المعروف جدا أنَّ الحرية لا يمكن انتزاعُها بكلِّ مساحتها دفعةً واحدة، وإنما ينتزعها الإنسان من قبضة أقداره فضاءً ففضاءً على امتداد العمر. وفي الكتابة كما في الحياة، فإنَّ المغامرة هي المقياس الأمثل لقدرتنا على الانعتاق من الأقدار، فكلما غامرنا أكثر شعرنا بحرِّيَّة أكبر ننتزعها أوّل ما ننتزعها من قبضة دواخلنا حيث مصائرنا قد انكتبت هناك بأقلام أبويَّة تقطر بالترهيب والترغيب. والمغامرة في الوقت ذاته هي مقياس الشاعرية في الذات الشاعرة حيث تتجلّى في القدرة على كسر الحاجز النفسيّ المألوف الذي يفصل ما بيننا وبين علاقاتنا التقليدية بالأشياء من حولنا حتى نكون قادرين على الوصول إلى أعماق تلك الأشياء والتَّماسِّ بها عبر طرائق جديدة، وإعادة تشكيل العلاقات معها بخوفٍ أقلّ وجمال أكثر وحواسٍّ أرهف، والاستقلال من إمبيريالية التاريخ الذي يستعمرنا، والانتماء إلى عصرنا دون الشعور الأليم بوحشة الغربة البشريّة. هذه هي التجربة الإنسانية في العمل الفنيّ عندما يقف المبدع مع عمله وحيدين في مواجهة هذا العالم يحاولان أن يجعلاه يُحلِّق فوق خوفه كي يصبح أكثر إنسانية وبهاء.. ولا يكفي أن نكرّس حياتنا للشعر دون الوثوق به وثوقا يتجاوز القول إلى السلوك كي نكون كبارا في موقفنا من الحياة بمقدار ما نحاول أن نكون كبارا في كلماتنا. فالشاعرية التي لا تحرّر صاحبها من الخوف -إلا من خيانته لها- لا تستطيع أن تصل به إلى حالة الإبداع، ولا تستطيع أن تجعل الشاعر يحسّ بطاقته القصوى من الآدمية حيث الآدمية هي توأم الشعرية بامتياز. وكلّنا - حينما نتحدَّث عنَّا كمشاريع شعريَّة- كلُّنا نتذكّر كيف كنّا في فترة نعومة أشعارنا نتعامل مع الكلمة تعاملنا مع الدمية، ولكننا بعد الإحساس بالطاقة التأثيرية الهائلة الكامنة في باطن الكلمات، بدأنا نتعامل معها كما نتعامل مع القنابل والألغام حيث الحذر هو سيِّد الموقف وحيث تفجير طاقة الإبداع في الأشياء من حولنا يعيد صياغة هذه الأشياء بتضاريس جديدة نقوم نحن باقتراحها على الحياة. هذه هي التجربة الإنسانية في العمل الفنيّ عندما يقف المبدع مع عمله وحيدين في مواجهة هذا العالم يحاولان أن يجعلاه يُحلِّق فوق خوفه كي يصبح أكثر إنسانية وبهاء.. خصوصا عندما يفتح باب الحرية على أقصاه عبر مغامرات أكثر وأكبر على صعيد الفنِّ، ولكن قبل ذلك على صعيد الحياة.