من أكبر أسباب استمرار التخلف في الكثير من المجتمعات العربية وغيرها من مجتمعات آسيا وأفريقيا وجنوب أمريكا أنها مازالت تتعامل مع الحضارة المعاصرة بمنطق وقيم ومفاهيم وتصورات وعادات وأساليب الحضارات القديمة ولم تدرك حتى الآن التغيرات النوعية الكثيرة التي جعلت حضارة العصر حضارة استثنائية تختلف كليا في قيمها واهتماماتها وفي غاياتها ووسائلها وفي مناهجها وأساليبها وفي تصوراتها ومفاهيمها وفي رؤيتها للإنسان والكون والحياة عن الحضارات القديمة. إن غياب الإحساس بهذه التغيرات النوعية بين الحضارة المعاصرة والحضارات القديمة قد جعل المجتمعات المتخلفة تكتفي من حضارة العصر باستعارة الشكليات والماديات وتقتصر على استهلاك الثمار اليانعة التي انتجتها هذه الحضارة دون أن تتعرف على الأشجار التي انتجت هذه الثمار ومن غير التعرف على المنابع الفكرية والثقافية والنفسية التي تدفقت منها هذه الخوارق الإنسانية الحديثة في الفكر والعلم والأدب والفن والذوق والمهارة والآليات والتقنيات والنظم السياسية والاجتماعية والإدارية وغير ذلك مما تزخر به الحضارة الحديثة وتختلف به اختلافات جذرية عن الحضارات القديمة. لذلك لابد أن نتأمل ونفكر طويلاً وعميقاً في حقيقة أن الإنسانية بقيت آلاف السنين رغم تعدد الحضارات تراوح مكانها دون أن تحقق أية تطورات نوعية ثم فجأة صارت مع الحضارة المعاصرة تتطور بسرعة مدهشة في كل المجالات بعد أن منحت الأفراد حرية التفكير والتعبير والإبداع ونمّت قابلياتهم العظيمة وأطلقت مواهبهم الكامنة وانتقلت بهم من مستوى الامتثال الأعمى إلى مستويات التفرد المبدع والمبادرات الخلاقة كما انتقلت بالأفراد في المجتمعات المزدهرة من مستوى التماثل والتكرار والتماهي مع السائد إلى مستويات التنوع والإبداع والاقتحام والمغامرة وإلى كل ما يحقق التميز والتفرد للإنسان فرداً ومجتمعا وبذلك ارتقت الإنسانية أفراداً وجماعات وشعوباً وأمماً من مستوى الاستكانة للطبيعة إلى مستوى تسخير هذه الطبيعة وتفجير طاقاتها والتحكم بهذه الطاقات فصارت الإنسانية تملك من المعارف والمهارات ومن القدرات والإمكانات والوسائل ما لم يكن يخطر على بال أحد في الحضارات القديمة وكأن الإنسان صار خلقا آخر وأثبتت الحضارة المعاصرة بذلك أن الإنسان لا يبدع وينتج وينطلق إلا إذا امتلك زمام ذاته واستعاد فرديته وتحرر من الخوف وزالت عنه الحواجز النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية وتمكن من التفكير الحر والتعبير الصريح والمبادرة الجريئة دون أن يخشى على نفسه أو سمعته أو مصدر رزقه..؟!!. ولعدم توفر الحرية في الحضارات القديمة فقد غابت فرص التفرد وتوارت مقومات الإبداع واختفت حوافز المبارة وبقيت الحضارات القديمة كلها باستثناء الحضارة اليونانية تتحرك تحت سقف واحد لا تتعداه وتسير ضمن مسارات ثابتة لا تتجاوزها لقد ظلت البشرية آلاف السنين وهي تعيش ظروفاً متشابهة كانت القيادة الحضارية تنتقل من أمة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر ومن أسرة حاكمة إلى أسرة أخرى داخل الحضارة الواحدة لكن هذا التنقل للقيادة الحضارية بين مختلف الأمم والشعوب والدول لم يكن يترتب عليه أية تحولات نوعية في طبيعة الحياة الإنسانية ولا في قيمة الإنسان ولا في قدراته ولا في وسائل الحياة ولا في التقنيات ولا في مستوى العيش ولا في طرائق التفكير ولا في ذخيرة المعرفة ولا في طرق اكتسابها ولا في وسائل هذا الاكتساب..؟؟!!. ثم حصل التأسيس الاستثنائي الباهر للتغير النوعي ببزوغ الحضارة اليونانية التي بلغت تمام نضجها في القرن الخامس قبل الميلاد لكن تلك الحضارة الاستثنائية المدهشة لم يتح لها أن تستمر طويلاً فقد هاجمها الأسبرطيون أولاً ثم استولى عليها المقدونيون ثانياً ثم احتلها الرومان ثالثاً ومع استمرار وجود الذخائر اليونانية الفكرية والعلمية والأدبية إلا أن طاقاتها الاستثنائية بقيت مجمدة عشرة قرون بل أكثر حتى أعاد الأوربيون إحياءها في العصر الحديث وانتقلوا بها إلى مستويات أعلى وأرحب وبهذا الإحياء والاضافة والابداع حققت الحضارة الحديثة والمعاصرة انجازات غير معهودة لم تعرفها الإنسانية من قبل بل لم تفكر بها ولم تخطر على بال أحد منها فلم يكن الناس في الحضارات القديمة يفكرون بإمكانية اكتشاف قوانين الكون ولا إمكانية تسخير الطاقات المذخورة في الأشياء وإنما كانوا ينظرون إلى الكون برهبة وعجز ويعتبرون مكنونات الأشياء أسراراً مغلقة محجوبة عن البشر ومحال على الناس اكتشافها فليس على الإنسان سوى الاستسلام لوجوده الرتيب والقبول بما هو عليه من جهل واستسلام وعجز فهو قد كان في نظر نفسه كائنا يتلقى ولا يبدع ويستجيب ولا يتساءل وليس من شأنه أن يكتشف أو يغير أو يخترع أو يحتج لذلك فإن هذه الإنجازات المذهلة التي تعيشها الدنيا في هذا العصر ليست امتداداً لمنجزات الحضارات القديمة وليست استكمالاً لأعمال بدأتها تلك الحضارات بل إن المنجزات الهائلة للحضارة المعاصرة هي فقط امتداد لمنجزات العقل اليوناني وهي في تأسيسها أيام الإغريق وفي استئناف إحيائها في العصر الحديث تمثل طفرة نوعية غير مسبوقة وكل هذه الإنجازات المدهشة في مجالات الفكر والفعل قد تحققت بفعل التغير النوعي في الثقافة الأوروبية الذي أسسه وأبدعه اليونانيون ونماه الأوربيون وقد نتج عن هذه الطفرة الثقافية طفرات نوعية في كافة الحقول وبكل المجالات وعلى كل المستويات وسوف أحاول في هذا المقال المختصر وما يليه من مقالات إن شاء الله أن أشير إلى العناوين الرئيسية لهذه التغيرات النوعية التي أحدثت في الأوضاع البشرية تغييرات جذرية أما التعمق والتوسع فإن كل عامل يحتاج إلى كتاب كامل ليفيه شيئاً من حقه ويوضح دوره في التغير الحضاري الشامل الذي تعيشه الإنسانية. إن المجتمعات المتخلفة تتوهم أنها باستخدام منجزات هذه الحضارة وباستيراد شكليات التعليم وباقتباس بعض النظم من الغرب قد أصبحت جزءاً من مسيرة العصر الباهرة ولم تدرك هذه المجتمعات حقيقة التغيرات النوعية التي طرأت على الثقافة وعلى القيم وعلى العقل وعلى مفاتيح الطاقة البشرية وعلى مناهج التفكير وعلى أساليب التعبير. إن الحضارة المعاصرة تمثل تبدلات نوعية في التفكير والقيم والمناهج والاهتمامات والعلاقات والوسائل والأدوات وهذه كلها قد أدت إلى تبدلات جذرية في الحياة البشرية لكن المجتمعات المنغلقة رغم استفادتها المادية القصوى من هذه التغيرات ورقم أنها لا تستطيع أن تتحرك أو تعمل أو تمارس حياتها إلا بمنجزات هذه الحضارة الاستثنائية الباهرة ورغم أنها قد أخذت بالكثير من شكلياتها كنظم التعليم ونظم الطب والاستشفاء ووسائل النقل وأدوات الإتصال ونظم الإدارة ونظم التدريب وتخطيط المدن وتشييد الطرق وإنشاء الموانئ وبناء المطارات ووسائل الترويح وأساليب التسلية وطرز التشييد وأنماط البناء وأساليب الدعاية ووسائل الإعلام وغير ذلك من الماديات والشكليات فإنها رغم كل ذلك بقيت مأسورة بقيم وتصورات ومفاهيم وأساليب ومعايير وعادات وتقاليد ما قبل الحضارة المعاصرة وبقي اتصالها بهذه الحضارة اتصالاً استهلاكيا وسطحيا وشكليا مازال غريبا وبعيداً كل البعد عن التأثير على البنية الذهنية المتكونة تاريخيا خلال القرون الماضية لذلك فإن المجتمعات المتخلفة لم تدرك التغيرات الثقافية النوعية الحاسمة التي كانت وراء هذه الإنجازات المدهشة فتوهمت أن السر الحضاري الجديد يكمن في تعميم التعليم وفي استعارة هذه الشكليات والماديات واعتقدت أنها بهذا الاستيراد الأبله لمنجزات المجتمعات المزدهرة قد دخلت في ملحمة الازدهار العقلي الذي حقق هذه الإنجازات وأنها بهذه المظاهر المجلوبة قد باتت تشارك عملياً بهذه الحضارة الاستثنائية التي غيرت حياة البشر تغييراً جذريا. إن الناس في المجتمعات المتخلفة يتوهمون أن التعليم يقدم كل منجزات الحضارة المعاصرة ولم يدركوا بعد بأن العلوم والتقنيات والإبداعات المعاصرة جاءت نتيجة للتبدل الثقافي وليست سبباً له فنهضة الفكر تؤسس لنهضة العلم وليس العكس فالعلوم هي إحدى ثمرات فكر المراجعة والنقد والتساؤل وإعادة النظر والتحديق من جديد في كل ما كان سائداً مما استقر وهيمن دون مراجعة ولا تحليل ولا تمحيص أما العلم الذي استوردته هذه المجتمعات المتخلفة فقد ظل معزولاً عن بيئته ومقطوعاً عن جذوره ومنفصلاً عن منابعه الفكرية فهو يشبه الغصن الجاف المقطوع من شجرة باسقة لذلك بقي العلم وبقيت روحه في المجتمعات المتخلفة خارج البنية الذهنية للمعلمين والدارسين معاً لأن الأفراد يصاغون بالثقافة السابقة للتعليم والمصاحبة له والمستمرة بعده فالتعليم محكوم بالثقافة السائدة وليس بالعلوم الطارئة لذلك ينبغي أن يدرك الناس هذه الحقيقة وأن يتفهموا التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة البشرية وبذلك يمكنهم فهم عصرهم وبناء القدرات الفكرية والعلمية والعملية التي تتيح لهم الدخول في هذه الملحمة الباهرة بدلاً من الاكتفاء باستخدام منجزاتها واستهلاك ما يستوردونه منها. إن هذه الإنجازات الحضارية العظيمة والمتنوعة والمذهلة التي استفادت منها كل مجتمعات الأرض حتى أشد المجتمعات تخلفا لم تتحق للغرب بسهولة وإنما سبقتها تغيرات نوعية في الثقافة الغربية كما أن المجتمعات التي ازدهرت لاحقاً في الشرق لم تزدهر حتى قلدت الغرب واستعارت منه مفاتيح ومقومات هذه الحضارة الاستثنائية فالتغير النوعي الأول الذي تميزت به الحضارة المعاصرة هو تأكيد النزعة الفردية أما الحضارات القديمة فقد كانت لا تهتم بالإنسان بل تحرص على طمس فردية الإنسان وتسعى إلى تماثل الأفراد ليكونوا نسخاً مكررة يهتفون للسائد ويتعصبون للمألوف ويقاومون التغيير وكانت تلك الحضارات تسخر الكثير من الاهتمامات والطاقات والتنشئة والقوة من أجل تعميق هذا التماثل وبرمجة الناس على الاعتزاز به وتخويفهم مما يخالفه وغرس الكره للمخالفين كان الفرد لا يحس بفرديته ولا يشعر بوجوده المستقبل ولا يخطر على باله أن يراجع أي شيء مما هو سائد ولا أن يتساءل حوله ولا أن يبدي فيه أي ارتياب وإنما هو ليس أكثر من خلية في جسم العشيرة أو القبيلة أو الدولة يتحرك مع القطيع دون أن يكون له أي حق في التفكير المستقبل بل دون أية مهارة أو قدرة على هذا التفكير العقلاني الذاتي لأنه اعتاد على الاستجابة التلقائية واختطفته تشريطات الطاعة العمياء كما اعتاد على الوثوق المطلق بهذا السائد الذي تتوارثه الأجيال دون أي تغيير ويغتبط بما وجد عليه قومه وذاته والاستماتة في الدفاع عنه والعداوة لما يخالفه أو يتشكك فيه أو يتساءل حوله أما الحضارة الغربية المعاصرة فهي بعكس ذلك تماماً إنها تسعى لتوسيع دوائر التنوع فالأفراد لا يراد أن يكونوا متماثلين وإنما يراد أن يصيروا متنوعي الأفكار والاهتمامات والاتجاهات والمهارات والقدرات وبهذا التنوع الخصب والمنتج أصبحت الطاقة البشرية أعظم الثروات وأدومها فهي الثروة الوحيدة المتجددة التي لا تنضب فإذا تدفقت الفاعليات الفردية فإن أية زيادة سكانية تصبح مصادر جديدة للعلم والإبداع والابتكار والاختراع والاكتشاف والمهارة والإنتاج ومنابع متجددة للقوة والازدهار والثراء أما إذا بقيت الفاعلية الفردية مطموسة وغير منتجة كما هي في المجتمعات المتخلفة فإن أية زيادة سكانية تصير عبئاً إضافياً يخنق التنمية ويعطل حركة المجتمع لأن الناس في هذه البيئات المتخلفة يأخذون ولا يعطون ويستهلكون ولا ينتجون ويثرثرون ولا يعملون وإذا عملوا جاء انتاجهم ضحلاً وركيكا فهم عبء على التنمية وليسوا من بناتها. لقد حاولت خلال سنوات مضت أن أقارن بين الحضارة الإنسانية المعاصرة والحضارات القديمة فخرجت من هذه المقارنة بأكثر من ثلاثين من التغيرات النوعية تميزت بها الحضارة الحالية وسوف أحاول التعريف باختصار بهذه التغيرات في حلقات قادمة إن شاء الله.. (يتبع)