يأتي الحزن ليقلب منافذ الروح ويطرق أكثر الأبواب الموصدة أمام الحالة الإنسانية الملتبسة بين الوعي واللاوعي .. يصر أن ينتزعنا من ذواتنا ويثبت أضلع الروح في أكثر الزوايا انحصارا بين فوضى حالات القلق التي توقظ كل شيء يتعلق بنا ، ويتعلق بالكون ، ويتعلق بالعالم الأبعد عن عقل الإنسان ..حتى يتحول الحزن - هنا - إلى حكاية ألم ، حكاية فرح ، حكاية الحكاية ، والضدية في كل مايمكن أن يحس والقفز فوق أكثر المفاهيم الإنسانية خطورة يمنح الروح مرآة عاكسة لكل تفصيل في الكون ويستبق الجنون إلى حواجز وممرات ضيقه وأخرى متسعة حد الضجر .. يستبقي في الداخل تضارب الحالة حينما لاتفهم كثيرا أهي حزن ؟؟ أم فرح متعب ؟ أم وجع بوجه حزن وبجسد متعب ؟ كل شيء جائز في مدن الأحزان وارتفاع صهيل الألم الذي يجرفك عند شواطئ ممتدة لايمكن قياس حكاية مخاوفها ، كمالا يمكن - أيضا - المغامرة بالرقص فوق أمواجها .. هذه المدينة ( مدينة الأحزان ) التي تمنحك كل شيء بها .. إغراء أرصفتها ووهم خصال ضفائرها وبريق كلمة شفتيها بل إنها تمنحك القدرة على استنشاق الحياة من خلال حالات إنسانية غير معقولة تقودك إلى قبضة الألم الشهي الذي تشتهي أن تلامسه فوق غيمة الإبداع ... فتأخذك بعيدا .. هنا ! تحلق فيك في ذات اللحظة التي تسرع من هبوطك ، تجمعك في ذات الشتات الذي يقلبك قلبا . لكنها لاتنس أن تخلق منك كاتبا ، مبدعا ، أصابع بقلم ، وروح بأكثر من لفافة وورق وحبر وتشبع بلحظة الدهشة التي تراها بعيون معلقة فوق سور السماء تهطل مع الأحداث وتضحك وتبكي في العزلة وتجردك من كل ثياب طويلة تعرقل خطواتك صوب الممر الضيق الذي يعبره العابرون بخوف لكنك تحسن كثيرا ركل جسد مثقل بآلام تصعد بك إلى الضفة المقابلة لضفة الالتباس الممتع .. والوقوف عند نقطة غير المألوف . إن ألما لايغازل فينا أرواحنا ويعيد بناء قلوبنا فتنصهر في حالة الإبداع لايمكن إلا أن يكون كاهناً بلا طقوس تجرفه نحو اليقين يستحضر مايمكن أن يساعدنا على قراءة النص بعيون اعتادت على أن تغمض أجفانها لدى البيوت المسكونة بتوق متدافع نحو الغيب والمجهول وفكرة الاختفاء ، فيطال مع تضاربه عبارات الجدران الشاهقة وتمتمات الأسرار المعلنة لدى روح تعيش حالة الانسحاق في خرافة الوجع واستحضار نص يشتهي أن يعلن إيمانه وخوفه معا . فأي اشتهاء ذاك تشعله الأحزان الملتبسة بين الألم ؟ وأي رغبة عارمة تلك التي تخلق بأطراف الروح انتفاضة الدخول لدهاليز الفاجعة الحياتية والمأساة الإنسانية والتوق الجنوني للأشياء والمشاعر المتضاربة العاصفة بين الحب والكره والقيم ... هل الحزن محرض بذلك الشكل المخيف على الكتابة الإبداعية لدى الكاتب ؟ هل الكاتب الجيد هو الذي يتخرج من مدن الأحزان التي تعصف بروحه ليمضي كسرب أعياه الوجع ؟ أم أن للفرح تلك القدرة على خلق حالة الإبداع الجميلة ؟ أم أن الإجابة تناقض ذلك كله لتستدعي المحرض الحقيقي على البوح وممارسة العته والشجاعة الكتابية ... حقيقة الألم ووجع روح لاتحسن سوى أن تغسل أوجاعها بتجربة كتابية ؟ مراوغة الحزن يقول محمد الحرز - الناقد والكاتب - بأن المحرض الأكبر على الكتابة هو الألم لا الحزن.والفرق عندي شاسع بينهما, فالحزن هو مظهر من مظاهر الألم,بعض الأحيان يأتي مراوغا , لا يذهب إلى العمق الإنساني الذي يحتاجه المبدع لأجل الكتابة. هو حالة ظرفية وثيقة الصلة بالتكوين الاجتماعي للشخصية المبدعة,بينما الألم حالة وجودية تعكس جدلية الموت والحياة.إنه خيط رفيع يخترق الطبيعة والكون والإنسان,ويستقر في الذاكرة الإنسانية بوصفه إحدى التراجيديات الكبرى التي صنعت الأدب الإنساني على مر العصور, من الإلياذة والأوديسة في التراث الإغريقي , إلى البهامهاراتا والرامايانا في التراث الهندي , إلى ألف ليلة وليلة في التراث الإسلامي إلى الكوميديا الإلهية في التراث المسيحي .هنا الألم ليس بوصفه الحسي المرتبط بالجسد, أو بالقيم الأخلاقية المتصلة بالخطاب الاجتماعي .إنه الألم الذي ينتج عن تأمل الحياة, والتفكير فيها من العمق. محمد الحرز اكتمال الاحتلال وأوضح بقوله " صحيح أنه ثمة علاقة بين الاثنين أو لنقل الألمين.لكن التوقف عند الأول لا ينتج عند المبدع سوى الكتابة الرومانسية التي تتغنى بالألم دون أن يفتح ثغرة في روح الكاتب المبدع , كي يحتل عليه لا حقا كيانه كله.إن هذا الاحتلال لا يتم إلا إذا تحوّل هذا الألم إلى موقف من الحياة والوجود والإنسان.فعندما يتحول الألم إلى دافع غريزي يمتزج بالحواس والمخيلة والعقل,تكون التجربة الكتابية قد نضجت عند المبدع,وسطعت أشد السطوع في نصه , بحيث من شدة سطوعها لا تتوضح , والألم يتكثف فيها بالرمز والمجاز إلى درجة أن القارئ لا يرى من الألم نفسه سوى اخضرار أوراقه, ونضارة أزهاره , ولذة ثماره. الشاعر الجاهلي ألم يكن يتميز الشاعر "الجاهلي" بمصدرين من الألم الذي رافقه في مسيرته الحياتية, وبالتالي ميزته كشاعر لا تتوقف مخيلته عن النمو والإخصاب.الأول : الإحساس بألم الوحدة في الصحراء, والآخر :الإحساس بألم الموت والفناء في هذا الفضاء الشاسع من الصحراء.هذان المصدران جعلا الإحساس بقسوة الزمن عند الشاعر الجاهلي بمثابة المغذي الذي يعطي الشعر الجاهلي سماته الرفيعة التي حاول من خلالها الشاعر الجاهلي أن يتغلب على هذه القسوة بكتابة الألم نفسه إبداعا خالدا على مر العصور. تخطي الألم لذلك أرى أن تأمل الألم بعد تخطيه جسديا ونفسيا فلسفة قائمة بذاتها.ومن لا يتخطى ألمه ولا يتجاوزه, يبقى أسيرا له على مستوى التجربة النصية والحياتية أيضا.وعندما يتورط المبدع في هكذا فلسفة,لا يمكن البحث في نصه عن شعرية الحزن أو شعرية الفرح, في تقسيم ربما يخل بالنص ذاته.النص من خلال هذا التورط كتلة واحدة, والبحث عن دلالات هذه الكتلة يشترط تجاوز النظرة التقسيمية للنص, لسبب بسيط , فالنص هو الوجه الآخر للحياة كما يراه بارت والبنيويون عموما.وهناك تجار إبداعية على مستوى الشعر والرواية تنوعت آلامهم في الحياة باختلاف عصرهم وظروفهم الاجتماعية والتاريخية . لكنهم اشتركوا جميعا كمبدعين متميزين على تحويل هذا الألم إلى فلسفة تتصل بكتابتهم الإبداعية. يكفي أن أشير إلى حياة الشاعر ديك الجن وجلال الدين الرومي في التراث الإسلامي , وبودلير ورامبو ولتريامون في الأدب الفرنسي, وريلكه في الأدب الألماني وطاغور في الأدب البنغالي, وهكذا هناك الكثير, فالكل عنده قصة وحكاية مع الألم بتنوع مشاربه واختلاف سماته وخصائصه.لكن من هو الذي أخذ بيد ألمه وأوصله إلى ضفة نهر الإبداع سالما؟!. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نبدأ به طريقنا إلى قمة الإبداع والكتابة. عادل الحوشان صياغة العلاقة بين الأشياء أما عادل الحوشان - الكاتب والروائي - فيقول " للفزَع والخوف والندم مطارق أكثر ضراوة من الحزن ، فزع الحياة وأسئلتها العالقة، عيون البشر ومحاولة فهم أطرافهم كيف تعبُر كل هذه الشوارع المزحومة بالأفكار ، لا أعتقد أن كائناً حزيناً سيحب الحياة مثلما يفعل كاتب تلمّع ريشه الموسيقى ورغوة الفنْ.الفنان في كتابه لايمكن أن يفعل ما يفعله وهو في حالة حزن ، هذه الحالة تهشّم العظام ، الكتابة حالة فرح كبيرة لكنها معقدة لدرجة أن صبغتها تشبه وجوها كثيرة في مأتم ، هذه الحالة التي يصعب وصفها أو تفسيرها أو فهمها ، حالة خلق الحالة نفسها وإعادة صياغتها وقلبها رأسا على عقب ، أي أنها مهمّة لا مثيل لها حين نفكّر بإعادة صياغة العلاقة بين الأشياء وكأننا نراها للمرة الأولى. السرّ الوحيد الذي لا يمكن فهمه، القبض على الفكرة وعلى اللغة المناسبة للغابة ، التفكير بالقفز من الهاوية بشجاعة ، أن يصبح الموت حالة طبيعية يمكن عيشها وتجربتها والعودة منها ونفض الغبار عن الثياب ، هنا تكمن حالة الفرح الوحيدة التي تفتح فمها لتمضغ الحزن عن بكرة أبيه، هو شيء يشبه الحزن لكنه ليس كذلك، يشبه الفرح ولكنه أيضا ليس كذلك هو مثلما هو، أقرب إلى الفزع المحشو بشجاعة البحث عن إجابات نسبيّة لأسئلة عالقة لا يمكن الإجابة عنها، أن نكرض بعيداً لنعيد لرئتينا الهواء. محمد الحرز: مَن الذي أخذ بيد ألمه وأوصله إلى ضفة نهر الإبداع سالماً ؟ طاقة الحزن وعجلة الكتابة أما جاسم الصحيح - الشاعر - فيعلق بقوله " لست أدري إن كان هو الشاعر (صلاح جاهين) أو شاعر آخر، الذي قال (لست شاعرا حزينا ولكنني شاعر متألم). الحزن حالة من حالات الضعف الإنساني يولد عبر السقوط في بئر المكابدات، ولكنه حينما يكون مبطنا بالألم فإن الألم يمثّل طاقة قوية تُدار بها عجلة الكتابة فتنتج الإبداع. والإبداع في حدّ ذاته حالة فرح تنتج من المستوى الجمالي الذي يصل إليه النصّ. ماذا يعني ذلك ؟ ذلك يعني أنّ الفرح هو جمال الحزن حينما يتجلى هذا الجمال في صور شعرية تنثال بالعواطف الإنسانية. عادل الحوشان : الكتابة حالة فرح كبيرة لكنها معقدة تشبه وجوهاً كثيرة في مأتم استقراء الألم لكن ثمة سؤال آخر يلقي بجرانه أمامي وهو : هل يكفي أن يكون الحزن محرضا على الكتابة للوصول إلى الحالة الإبداعية ؟ والجواب هو : لا.. أنا أعتقد أنّ قدرة المبدع على استقراء الألم أو استقراء المعاناة هي التي تسمو بهذا الألم أو هذه المعاناة إلى مستوى الإبداع. ولكنّ عملية الاستقراء الفني تحتاج إلى أدوات فنية، وهنا تأتي قدرة المبدع في السيطرة على هذه الأدوات الفنية كي يقوم بعملية استقراء ناجحة ترتفع بحالتها إلى الحالة الإبداعية الجمالية الإنسانية التي يبحث عنها الفنّ. ولا شيء غير الإبداع قادر على أن يستخرج الراحة من الوجع، والجمال من الحزن، واللؤلؤ من الحجر الصلد. جاسم الصحيح: الإبداع قادر على استخراج الراحة من الوجع والجمال من الحزن واللؤلؤ من الحجر سر الحزن أما سر الحزن الذي يلف الكثير من المبدعين والذي يحرضنا كقراء أن نقترب منه فيقول " الصحيح " حينما تستفيق حواسُّنا من حالة الخدر التي تعيشها، لا يمكن لها أن تستغرق وقتا طويلا لتشعر بالحزن لأنَّ كلّ ما يجري في العالم يبعث على هذا الحزن. الحزن يتظاهر في العيون والقلوب والقصائد والأغاني وآلات الموسيقى وحتَّى في عناصر الطبيعة. لا يمكن لنا أن نكتشف سرّ الحزن لأننا لو استطعنا اكتشافه فسد الحزن وتلاشى جماله. لكن بوسعنا دائما أن نقوم بتأويل هذا السرّ وربما شطحنا في التأويل وتجاوزنا المعقول. أنا أعتقد مؤوِّلا سرّ الحزن أنَّه يكمن في كونه شعورا إنسانيا فطريّا عاما لا يختلف فيه بشرٌ عن بشر ولا حضارة عن حضارة ولا أمم عن أمم. كما أنّه مرتبط بتلك النفحة الوجدانية الإلهية التي نفخها الخالق في المخلوق، والمسمَّاة بالروح. الحزن صديق الناس بأجمعهم، ولكنه في علاقة حميمة مع المبدعين الذين يجيدون كيف يقطِّرونه في مصافيهم عذبا فراتا ويسقون به حقول اللغة والحياة والبشر.