بأية حال، هل يستطيع أبو مازن أن يذهب أكثر مما ذهب اليه ياسر عرفات في التنازلات ؟ حقا، هناك ضغوط كبرى تمارس عليه من قبل الأمريكيين والاسرائيليين (وآخرها قطع الاتصالات مع المفاوضين)، ولكن الضغط الحقيقي قادم من الشارع الفلسطيني. ففي النهاية، ليس على محمود عباس أن يقدم كشف حساب على أعماله لأحد سوى هؤلاء الذين انتخبوه، حتى لو كانت السلطة الفلسطينية تعيش على أموال المساعدات الخارجية. نحن نعلم أن المساعدات مقيدة بشروط، وليس هناك شيء مقابل لاشيء. ولكن لا يمكن أن يكون الثمن أغلى من الشيء الذي يشترى. في هذه العملية الكبرى المزمعة التي يشتبك فيها المحلي بالخارجي، والاقتصادي بالاجتماعي، والسياسي بالثقافي، - فالسلام إما أن يتم على جميع المستويات ويشمل كل النواحي في المجتمعات المعنية، وإما أن يبقى كلاما على ورق. لن يترك الفلسطينيون محمود عباس يتصرف وكأنه السيد الأوحد في مجتمعهم: هذا ما أوضحته العملية الانتحارية التي تعد أيضا رسالة موجهة اليه، والتي لا تبدو مرحبة بالنهج الفكري الذي يمثله، والذي كما نعلم يدعو الى وقف عسكرة الانتفاضة تماما، وتحويلها الى سياق من الاحتجاج السلمي، ربما على طريقة غاندي، أو ما يسمى بالعصيان المدني.. وهي مقاربة تفتح المجال أكثر للوصول الى حل عن طريق التفاوض. فبعد كل حساب، استطاع المهاتما غاندي أن يجلي القوات البريطانية عن الهند فقط عن طريق الاحتجاجات السلمية. ولكن أين هذا من الثقافة الارهابية التي تدعو الى العنف، وتستند الى اجتهادات بشرية، والتي هي أيضا رد فعل على عنف شامل وقع ضد العرب من طرف القوات الاستعمارية أولا، والحركة الصهيونية التي هي امتداد لها ؟ بعبارة أخرى، الاسرائيليون يتهمون العرب بالعنف، ولكن العنف حصل في الجانبين. فهم أيضا يحصدون الأرواح يوميا ويدمرون الممتلكات، وليس من المفيد في هذا السياق أن نعرف من بدأ ماذا، ولكن أن ينظر الجميع الى الأمام، وأن يتطلعوا الى ما يمكن فعله للاقتراب من السلام، بالرغم من استمرار العنف. فليس هناك مخرجا آخر، وبالخصوص ليس هناك مخرجا يكون فيه حساب الربح في الجانب الاسرائيلي وحساب الخسارة في الجانب الفلسطيني، أو العكس. ففي الحرب هناك رابح وخاسر. أما حين يحاول طرفان أن يصنعا السلام، فمن الضروري أن تكون هناك قناعة بأنهما سيشتركان في الربح، وإذا كانت هناك خسارة أو عجز، فعلى الجانبين تحمل ذلك بنفس القدر. * عن ميدل ايست اونلاين