لئن أعلن السيد كولن باول مؤخرا انه سيقوم بزيارة جديدة الى الشرق الاوسط، في محاولة لتحريك ترتيبات أمنية في الضفة الغربية وغزة، ترضي الاسرائيليين وتشجعهم على الانسحاب، فان السؤال اليوم، بعد احداث العنف التي أعقبت قمة شرم الشيخ والعقبة: هل ثمة فعلا من ينوي تنفيذ خريطة الطريق؟ ويغدو هذا السؤال أكثر خطورة عندما نضع في الاعتبار الحدود التي تقيد عادة اية ادارة امريكية، بالنظر لنشاطها والتزاماتها في الشرق الاوسط، وهي كما نعلم حدود واقعية، شديدة الضغط، وذات صلة مباشرة بالاجندة السياسية الداخلية سواء للرئيس او لنائبه ، خاصة في السنة الاخيرة من الفترة الرئاسية الجارية. وهناك ميل عام في المنطقة العربية، الى الربط دائما بين تحركات الدبلوماسية الامريكية في الفترة الاخيرة من الرئاسة وبين ما يفترض أنه التزامات أي رئيس تجاه اسرائيل. ويبنى على ذلك ان العرب قلما يصدقون أن أي رئيس امريكي قادر على أن يتوسط بقدر من العدالة النسبية بينهم وبين اسرائيل في مثل هذه الفترة الحاسمة، عندما يكون متطلعا الى البقاء في البيت الابيض للسنوات الاربع القادمة. واذا قيل ان هذا الاعتقاد يسيطر على الاذهان الى حد أنه يعرقل أي تقدم حقيقي باتجاه السلام، فانه لا شيء كذب هذا الاعتقاد الى حد اليوم. ويكفي أن ترى كيف أعادت اسرائيل ايقاد النار التي حاول السيد بوش اطفاءها في شرم الشيخ والعقبة، بهجومها على بعض القادة السياسيين الفلسطينيين، أمثال عبد العزيز الرنتيسي، لتدرك أن العرب ليسوا وحدهم في هذا الاعتقاد.. لو كان شارون يثق تماما بالمسار الذي جاء بوش بنفسه لتشجيعه ودعمه، بعد ان قطع التزامه بعدم التوسط الشخصي، حتى لا يصيبه ما اصاب الرئيس كلينتون من خيبة. ثم ألم يكن شارون يعلم أنه بذلك سيدفع ب"حماس" الى الامام مجددا، بعد أن حصل محمود عباس على مباركة البيت الابيض وبركاته؟ وحتى اذا قيل ان العملية الاسرائيلية كانت تستهدف تنظيما يعتبر ارهابيا في الولاياتالمتحدة ايضا- اي حماس- ، فان هذا لا ينفي واقع أنه لو هاجمت اسرائيل بنفس الطريقة قائدا فلسطينيا ممن يعتبرون معتدلين، لحصل نفس رد الفعل. فهل ان منظمة "فتح" مثلا ستسمح للاسرائيليين باغتيال قادتها السياسيين دون رد الفعل بعنف؟ الحقيقة ان عمليات الاغتيال التي جعل منها شارون أحد مبادئ سياسته الخارجية، بالرغم من أنه لم يكن اول من ابتدعها-فلاسرائيل تقاليد طويلة في هذا الميدان- هي التي ينبغي ادانتها ورفضها كطريقة للتعامل السياسي، ايا كانت التسميات التي تطلق عليها والذرائع التي تبرر بها. ولكن نلاحظ الانسداد الموجود في هذا السياق بالذات: فكل من الاسرائيليين والفلسطينيين يسمي العنف الذي يواجه به ارهابا، في الوقت الذي يجلس فيه المفاوضون الى نفس الطاولة. وقد تستمر هذه اللعبة طويلا. فلا احد يريد التنازل اذا كان ذلك سيظهره بمظهر الضعف. ولن يستطيع شارون ان يقنع محمود عباس بأن اغتيال الرنتيسي أو الشيخ ياسين سيكون مفيدا للسلام، وهو ما حاول تنفيذه دون جدوى، من منظور " ما لا يقوم به الامن الفلسطيني، نحن نقوم به". وكما هناك حدود، لا يمكن لأي رئيس امريكي ان يتخطاها، اذا اراد البقاء في البيت الابيض لفترة أخرى، كما يعتقد العرب وغير العرب أيضا، فمن الواضح أن هناك حدودا بالمثل لا يمكن لأي مسؤول فلسطيني أن يتخطاها. والامر هنا أكثر خطورة، اذ أنه لا يتعلق بالسلطة بقدر ما يتعلق بالحياة والموت. هناك تقاليد عنف خاصة بالعالم العربي-الاسلامي، كما هو الحال بالنسبة لاسرائيل. كيف لا نذكر عبارة ياسر عرفات للرئيس بيل كلينتون في كامب ديفيد: "أتريدهم ان يغتالوني"؟ لعل مصير الرئيس السادات هو الذي كان ماثلا امام عرفات، في نفس المكان الذي طبخت فيه اتفاقيات كامب ديفيد. وبعد أن اغتيل اسحق رابين أيضا، أصبح من المتوقع أن ردود الفعل في اسرائيل قد لا تقل عنفا عن ردود الفعل العربية. ومن ثم، ينبغي لأي عاقل الاستنتاج ان الخوف هو العامل اللامنظور في اية تسوية. ولا شك ان الخوف هو المفاوض الذي يكون له تأثير لا يتوقعه احد ، لأنه لا احد يحسب له حسابا واعيا. بيد انه موجود. وسيبقى كذلك طالما بقي الصراع دون حل على الارض. هذا ما يجعل مهمة كولن باول القادمة اكثر صعوبة. ولكن أيا كانت النتائج في هذه الفترة العسيرة، فانه لا احد سيفاجأ حقا لو اخفق اللاعبون في تنفيذ خريطة الطريق. فالحقيقة أنهم قد يتمنون احيانا الاخفاق -ربما بطريقة لاشعورية-، اذا كان فيه ما ينقذ سمعتهم، او حياتهم. وقد يلعب الخوف هنا ايضا دورا لا بأس به، لا فقط في تحديد معالم الطريق الذي لن يسلكه أحد حسب الخريطة المقترحة، وانما كذلك في تحديد خريطة الوعي الذي سيؤدي في مرحلة اخرى الى مزيد من العنف ومزيد من الاخفاق في صنع السلام. وهذا كله يلعب في صالح انتشار الراديكالية في المنطقة، التي ستؤدي بدورها الى تزايد الضغوط الامريكية على جانب واحد ، كما هو الحال دائما: اي العرب، وبالتابع البلدان الاسلامية. وليس من الصعب ان نتصور دخول دائرة مقفلة من العنف والعنف المضاد. فليس هناك وصفة سحرية لحسم تراكمات سنوات طويلة من الصراع والحقد من اليوم الى سنة 2005، حيث ينتظر قيام دولة فلسطينية مستقلة، حسب خريطة الطريق. فاذا تواصل المسار الحالي، فان الدولة الفلسطينية التي يتحدثون عنها لن تقوم حتى بعد قرن... الا اذا حدث انقلاب مفاجئ في ميزان القوى بين العرب واسرائيل. *عن ميدل ايست اونلاين