ما سر النجاح الذي حظيت ولا تزال تحظى به أعمال الروائي البرازيلي باولو كويلو في كل أرجاء المعمورة وبمختلف لغات العالم الحية فهذا كاتب أغرى أكثر من سبعة وأربعين مليون قارئ من مختلف أنحاء العالم بشراء كتبه وترجمة أعماله، القليلة نسبيا ، إلى 56 لغة من لغات العالم؟ كيف تمكن كويلو من اجتذاب هذا العدد الهائل من القراء وكيف تحول بتأثير من كتاباته إلى رجل ذائع الصيت يستقبله الملوك والرؤساء بعد أن كان إنسانا مجهولا لا يعبأ به ولا يلتفت إليه أحد؟ ما المعادلة أو الوصفة التي تمكن من تحقيقها في أعماله بحيث تحول في زمن قياسي نسبيا إلى ظاهرة محيرة في عالم الأدب والكتابة التخييلية؟ هل هو كاتب "شعبي" يكتب أدبا سهلا بسيطا مطعما بالعقد البوليسية أو الأبعاد الغرائبية أو أمور السحر والشعوذة كما هي الحال لدى ستيفن كنج وأ.ج. رولينغ ، صاحبة السلسلة الروائية الشهيرة هاري بوتر؟ ثمة اختلاف واضح بين النقاد والدارسين في تلقي ما يكتبه كويلهو ففي الحين الذي يضعه البعض في مصاف كبار الروائيين يرى البعض الآخر الذي ربما شكل أغلبية في هذا الشأن أنه كاتب تبسيطي فج تشكو كتابته من الضحالة، بل إن البعض يطعن في إلمامه وإحاطته بأصول وقواعد اللغة التي يكتب بها كما يشير إلى ذلك الكاتب نزار آغري في مقالة مهمة عمد فيها إلى "تشريح ظاهرة باولو كويلهو". وهذا هو عنوان مقالة آغري الآنفة الذكر. هذا التأمل الذي يتوسل بساطة العبارة والوضوح وينفر من التراكيب المعقدة والاشتغال المفرط على جماليات اللغة متأت من تجربة روحية عميقة خاضها كويلو نفسه في إحدى مراحل حياته التي كانت صاخبة ومزدحمة بالأفكار المتضاربة والمتناقضة. لقد جرب كويلو كل شيء واعتنق كل الأفكار الراديكالية من هيبية وفوضوية وماركسية وغيفارية و انتسب إلى فرقة تمارس السحر والشعوذة وسجن وعذب وكان نزيلا على المصحات العقلية. لقد وجد كويلو خلاصه في الكتابة التي جعلته يصل إلى ضرب من السلام مع نفسه ، وكان تأثير الكتابة عليه يشبه إلى حد بعيد تأثير الدين على معتنقيه الذين يرى أنهم أشخاص يتسمون بالحساسية المفرطة و العواطف الجارفة ولولا أن الدين يعمل على تصعيد تلك العواطف وتفريغها بطريقة آمنة لانتهى بهم الأمر لأن يكونوا مجرمين أو عاهرات ، حسب توصيفه. إن البعد الديني لكتاباته ينطوي على قدر كبير من التسامح وقبول الآخر مهما كانت أفكاره ومعتقداته ومثله التي يعتنقها إذ أنه ليس من حق أي أحد أن يفرض أفكاره ومعتقده على أحد وليس له أن يتدخل فيما يتوجب على المرء أن يؤمن به. إن البعد الديني لديه يتخذ صورة الخلاص الفردي وليس الارتهان الجماعي لعقيدة أو أيدلوجيا محددة. إنه كيولو يقف على الطرف النقيض من الأصوليين أيا كان دينهم ومعتقدهم ممن يسعون لفرض تصورهم الخاص على الآخرين. كتاب "محارب النور" أو دليل محارب النور لكويلو الذي نشر باللغة البرتغالية لأول مرة عام 1997 ونشرت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية عام 2002 لا يندرج ضمن إطار الشكل الروائي المألوف الذي اعتدنا أن نقرأ كويلو من خلاله ولكنه عبارة عن شذرات ومقاطع قصيرة مركزة ذات طابع تأملي رؤيوي لا يخلو من الحكمة وربما الموعظة بمعناها الواسع تدعو الإنسان للتأمل العميق في الحياة والكون لكي يصل إلى مصدر النور الكامن في كل واحد منا ليكون أكثر تقبلا وانسجاما مع الحياة بكل عيوبها ونواقصها ولكي يكون أكثر قدرة على تحمل إخفاقاته وفشله في التعامل مع معطيات الحياة بكل ما تحتويه من التناقضات التي تنتج عن الحصر. يبدأ الكتاب الذي هو مجموعة من المقطوعات التي سبق نشرها في عمود صحفي يحمل عنوان(مكتوب) بحكاية/مقدمة قصيرة تحكي عن صبي يلتقي بامرأة غريبة المظهر تخبره عن جزيرة يقع فوقها معبد كبير بأجراس عديدة. تختفي المرأة ويشرع الصبي في البحث عن تلك الجزيرة في المكان الذي أخبرته عنه. لا ينجح الصبي في العثور على الجزيرة فيلجأ لسؤال الصيادين الذين يخبرونه أن تلك الجزيرة كانت موجودة بالفعل ولكن ذلك كان قبل زمن بعيد جدا وأن تلك الجزيرة بكل ما كان فوقها قد أصبحت تحت ماء المحيط بسبب هزة أرضية عظيمة. لزم الصبي الشاطئ فترة طويلة من الزمن وترك مدرسته وهجر اللعب مع أصحابه الذين اخذوا يسخرون منه طمعا في سماع تلك الأجراس الغريبة ولكن كل ذلك كان بلا طائل. غير أن قضاءه فترات طويلة من الإنصات والتأمل لدى الشاطئ علمه أن يتأمل الطبيعة بشكل أكثر تركيزا فصار يرى ويسمع بتقدير كبير ونشوة بالغة ما كان يمر عليه من قبل مرور عابر دون أن يعيره انتباهه أو يحظى باهتمامه. حين يصل الصبي إلى تلك المرحلة فقط يتناهى إلى سمعه شيئا فشيئا صوت أجراس المعبد التي طالما حلم بسماعها. تمر الأيام ويكبر الصبي ويصبح رجلا ويعود بعد ذلك إلى المكان ذاته الذي التقى فيه بالمرأة الغريبة ليفاجأ بها تنتظره دون أن يترك الزمن علاماته عليها. تعطيه كراسا أزرق الغلاف مليئا بالصفحات الخالية وتقول له "اكتب : إن محارب الضوء يجل عيني الطفل لأن بوسعهما النظر إلى العالم دون مرارة. وهو حين يريد أن يعرف إن كان الشخص الذي يقف إلى جواره جديرا بثقته فإنه يحاول أن يراه بعيني طفل". حين يسألها "ما محارب النور"؟ تقول له إنه امرؤ قادر على فهم معجزة الحياة وعلى القتال حتى آخر رمق في سبيل ما يؤمن به. إن بمقدور كل واحد منا أن يكون محارب نور كما تقول تلك المرأة الغريبة وفي ختام تلك الحكاية تطلب منه أن يكتب عن ذلك المحارب. تصف نصوص الكتاب القصيرة محارب النور في جميع أحواله. في لحظات انتصاره وفي لحظات هزائمه. في حالات فرحه وفي حالات حزنه. تصور اليأس الذي يستحوذ عليه والأمل الذي ينتشله من هوة يأسه ويعيد إليه ثقته بنفسه وإيمانه بخالقه. ليس محارب النور إنسانا كاملا بل هو إلى النقصان أقرب منه إلى الكمال. إنه يرتكب الحماقات ويقلق بسبب أكثر الأمور تفاهة وقد تترك الأحداث العابرة ندوبا غائرة في روحه وجروحا دامية في قلبه. إنه شخص متذبذب وقلق قد ينتابه الشعور بالمجد في لحظة ما ثم لا يلبث أن يعاجله إحساس بالضعة لأن المسافة التي تفصله عن بلوغ هدفه وتحقيق أسطورته الشخصية التي رسمها له القدر لا تزال بعيدة وشاسعة. إن محارب النور كما يصفه كويلو في أحد المقاطع يشبه ماء النهر فهو يتكيف مع محيطه ويتجاوز العوائق التي تقف في طريقه إلى أن يبلغ هدفه ويرتمي في أحضان المحيط ويفنى فيه. إن سر قوة الماء كما هو سر قوة محارب النور تكمن في قدرتهما الخارقة على تجاوز كل العوائق والأحجار التي ترتمي في طريقهما وتعيق مسيرتهما. في ثنايا الكتاب هنالك استشهادات واقتباسات من العديد من الثقافات والمؤلفين والكتاب من أمثال الحكيم الصيني إي تشينج والروائي البريطاني ألدوس هكسلي والفيلسوف الألماني هيجل وعمر بن الفارض والمهاتما غاندي وسواهم من الأسماء. من وجهة نظر شخصية لا أعتقد أن (محارب النور) من أنجح كتب كويلو رغم أنه اعتبر وفق مجلة التايم الأمريكية واحدا من أهم خمسة كتب في العام 2003 فهو كتاب يسرف في التبسيط والمباشرة ويعج بالعبارات التقريرية الساذجة من قبيل "إن محارب النور لا يؤجل اتخاذ القرارات" أو "يوقن محارب النور أنه من المستحيل العيش في حالة من الاسترخاء التام".