يعد كتاب ( الجنس الثاني) من أشهر الكتب المثيرة للجدل في القرن العشرين وأبرز مؤلفات سيمون دي بوفوار التي عرفت أكثر من أي شيء آخر لسوء حظها وكمفارقة قدرية ساخرة كرفيقة للفيلسوف الفرنسي سارتر. هذا الكتاب أحدث ضجة كبرى حين نشر في فرنسا لأول مرة عام 1949 إذ منع من قبل الفاتيكان وهوجم هجوما لاذعا بعد أن باع أكثر من عشرين ألف نسخة في الأسبوع الأول من نشره. الأطروحة الأساسية للكتاب تقول: إن المرأة لا تولد امرأة بل تصبح أو تصير كذلك من قبل المجتمع الذي يزرع في وعيها ولا وعيها أسطورة الزوجة- الأم التي ابتكرها الرجل. العديدون يعتبرون ذلك الكتاب النص المؤسس لما عرف فيما بعد بالتيار النسوي أو النسوية. الترجمة الأمريكية الأولى والوحيدة حتى الآن لهذا الكتاب صدرت عام 1953 عن دار النشر الكبرى كنوبف وقد باع الكتاب منذ الشروع في طباعته وتوزيعه ما يزيد على المليون نسخة. ومما زاد في نسبة توزيعه وانتشاره دخوله ضمن المقررات الجامعية المرتبطة بالدراسات النسوية. ما أثير مؤخرا حول هذه الترجمة من نقد موجه وجاد باعتبارها ترجمة تكتنفها العديد من الهنات والأخطاء بل حتى الحذف والتحوير أعاد هذا الكتاب مرة أخرى لدائرة الضوء في الأوساط الثقافية ذات الصلة. ففي كتاب نشر مؤخرا بعنوان ( إرث سيمون بوفوار) وهو يضم مجموعة من المقالات التي حررتها مجموعة من المتخصصات في دراسة فكرها ثمة ما يشبه الإجماع على كون الترجمة الحالية قد أساءت تقديم بوفوار إلى القراء ووصل الأمر إلى حد تشويه صورتها كمفكرة وصاحبة إطروحات جريئة وصارمة.إحدى المشاركات في هذا الكتاب تقول على سبيل المثال: إن هنالك مئات الأخطاء في الترجمة التي تتراوح بين الأخطاء البسيطة إلى إساءة فهم المصطلحات العلمية الدقيقة. ومما يزيد في تداخل الأمور وعدم اتضاحها أن النص الأصلي باللغة الفرنسية لا يخلو من الصعوبة والاستغلاق في حد ذاته فهو يكاد يخلو من الهوامش التوضيحية وبدا أن بوفوار قد كتبته وفق إيقاع ورتم سريعين كمن يريد أن يسطر كل أفكاره دفعة واحدة قبل أن ينفلت منه شيء منها. يضاف إلى ذلك أن أسلوبها التحليلي العقلي البارد قد تسبب في تعرضها للعديد من الانتقادات اللاذعة. فقد كتب الشاعر والروائي البريطاني ستيفي سميث على سبيل المثال عام 1953 قائلا انها قد كتبت كتابا هائلا عن النساء ليتبين فيما بعد أنها لا تحبهم ولا تحب كونها امرأة. النقاد النسويون بدورهم ابدوا عدم ارتياحهم لاعتبار بوفوار أن الأمومة تتعارض بشكل جوهري مع الحياة المستقلة.ولعل مما ضاعف الانتقادات الموجهة لأفكار بوفوار ودعمها حسبما يذهب إليه بعض المختصين في الدراسات البوفوارية هو تلك الأخطاء الفادحة في الترجمة التي أصبحت قديمة وبحاجة ماسة لأن يتم تجديدها. في إحدى العبارات على سبيل المثال ما يوحي بأن بوفوار ترسل تعميما مطلقا حول الحدود التي تقف في وجه المرأة حين تكتب أن الأمهات الفرنسيات قد وضعن في موضع حرج على الرغم من توافر دور الحضانة اليومية التقليدية. في النص الأصلي تشير بوفوار إلى أن ( الشلل ) الذي تعانيه المرأة يتأتى من عدم وجود من يقوم برعاية الأطفال وهي عبارة واقعية بالنظر إلى الظروف السائدة في الأربعينيات حيث كانت دور الرعاية ضئيلة العدد ولم يكن تنظيم الحمل مشروع في ذلك الحين.إضافة إلى إساءة فهم الكلمات والجمل فإن الطبعة الأمريكية قد حذف منها ما يعادل 15% من حجم الكتاب الأصلي باللغة الفرنسية ( حوالي 145 صفحة) وهو الأمر الذي أضعف إلى حد كبير الأجزاء المرتبطة ببحث أدب وتاريخ المرأة. وكانت بوفوار من أوائل من طرحوا هذه المواضيع باعتبارها تستحق الدراسة والبحث. لقد اختفت المقتطفات المأخوذة من روايات ويوميات نسائية بما في ذلك ما استشهدت به من كتابات فرجينيا وولف وكوليت وصوفي تولستوي لدعم أفكارها وطروحاتها. اختفت من الطبعة الإنجليزية كذلك بعض الشواهد التاريخية المعروفة على نطاق ضيق مما يفند النظرة التنميطية للمرأة من أمثال النساء النبيلات المنتميات إلى عصر النهضة و اللاتي كن يقدن الجيوش ويخضن الحروب. ولتكن الأمور أكثر وضوحا وجلاء يلزمنا أن نعود إلى البدايات. رجعت بلانشي كنوبف زوجة الناشر ألفرد كنوبف من إحدى رحلاتها إلى فرنسا مصطحبة الكتاب الصادر حديثا حينئذ لسيمون دي بوفوار بعنوان ( الجنس الثاني) ويبدو أنها قد اعتقدت أن الكتاب يتمحور حول الجنس بمعناه الجسدي الغريزي مما دفعها إلى أن تطلب من هاورد ماديسون بارشلي ، وهو بروفيسور متقاعد في علم الحيوان وصاحب كتاب حول التناسل البشري كان يقوم من حين لآخر بإعداد مراجعات عن كتب الجنس لصالح جريدة هيرالد نيويورك تريبيون ، أن يقوم بترجمة الكتاب إلى الإنجليزية. ويبدو أن معرفة بارشلي باللغة الفرنسية كانت مقتصرة على أيام دراسته الجامعية كما أنه لم يكن ملما بشؤون الفلسفة وعلى وجه الخصوص ما كان رائجا حينئذ حول الفلسفة التي تشكل المنطلق الأساسي لأفكار بوفوار.جدير بالذكر أن من عمل على إثارة الجدل حول هذه الترجمة الوحيدة حتى الآن لهذا الكتاب المثير للجدل في حد ذاته مجموعة من المختصات بالدراسات النسوية خصوصا في العقد الأخير من القرن المنصرم. وهؤلاء يعتقدن أن بوفوار، لم تنل حقها من الاعتراف فيما يرتبط بريادتها ودورها الأساسي في ترسيخ وتوطيد دعائم الفلسفة الوجودية. لقد كانت سباقة إلى الإشارة إلى مشكلة الذات والآخر منذ أيام دراستها الجامعية وقد سبقت سارتر إلى ذلك وإن ظن عن طريق الخطأ أنها قد أخذت تلك الفكرة منه ، حسبما تشير إليه مارغريت سيمونز صاحبة كتاب ( ديبوفوار والجنس الثاني) الصادر عام 1999 والتي تعمل حاليا على نشر أعمال سيمون ديبوفوار في سبعة مجلدات بما في ذلك يومياتها.في عام 2000 تدخلت الوريثة الأدبية لبوفوار وابنتها بالتبني سيلفي لي بون دي بوفوار وخاطبت الدار الفرنسية الشهيرة غاليمار التي تقوم بنشر الكتاب باللغة الفرنسية مشيرة إلى الأخطاء الفادحة في الترجمة الإنجليزية إضافة إلى الحذف الذي طال بعض أجزاء الكتاب مما دفع بالمسؤولين في دار غاليمار إلى مخاطبة ناشري الترجمة الإنجليزية للعمل على إعداد ترجمة أخرى بديلة ولكن هؤلاء لم يستجيبوا لهذا الطلب. وحتى حين أقدمت مطابع جامعة هارفرد على اقتراح إعداد ترجمة جديدة جوبه اقتراحهم بالرفض لأنهم لا يملكون حقوق النشر. المتحدثون باسم كنوبف وفانتاج ، التي تقوم بطباعة النسخة الشعبية من الكتاب امتنعوا عن التعليق على موضوع إعادة الترجمة. وإن كانت حجتهم في رفض إعادة الترجمة كما تشير أحد الباحثات هو إن الإقبال على شراء الكتاب حاليا لا يبرر ولا يشجع مسألة إعادة الترجمة. فالكتاب لا يبيع سوى ألف نسخة في طبعته ذات الغلاف السميك الأغلى ثمنا على مدار العام ، و12 ألف نسخة في طبعته الشعبية ذات الغلاف الورقي سنويا كذلك مع وضعنا في الاعتبار أن 40% من تلك المبيعات هي للأغراض الأكاديمية الدراسية المحضة. ولكن ترجمة جديدة للكتاب حرية بأن تجذب المزيد من القراء لهذا الكتاب كما حدث في أوسلو عام 2000 حين أعيدت ترجمة الكتاب بعد ترجمته الأولى عام 1960 فكان أن باع أكثر من 20ألف نسخة في غضون شهور قليلة. فهل ستخضع الدار الناشرة للكتاب أخيرا وتستجيب للمطالبات المتتابعة والملحة بإعادة ترجمة هذا الكتاب؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام وربما السنوات القادمة.