رغم شهرتهما كأكبر فيلسوفين وجوديين أوروبيين على مدار القرن العشرين، فإنهما غائبان الآن عن المشهد الثقافي في أوروبا وفي العالم أيضاً غياباً شبه تام. الأول هو جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي الفرنسي، والثاني هو مارتن هايدغر الفيلسوف الوجودي الألماني. ومع أن كليهما عاشا في وقت واحد تقريباً، ولمع اسماهما منذ أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، فإن تعاونهما كان محدوداً رغم انشغالهما بقضية واحدة هي الفلسفة الوجودية. ذلك أن سياسة بلديهما كانت تسير في خط متصادم انعكس على الحركة الفكرية والثقافية فيهما. ومع أن سارتر هو الأشهر بينهما، عربياً بصورة خاصة ولأسباب عدة منها نفوذ اللغة الفرنسية وآدابها عندنا، فإن هايدغر لا يقل شهرة عن الأول في الأوساط الفكرية والفلسفية في الغرب رغم محدودية إنتاجه قياساً على إنتاج سارتر. ولكن المتخصصين في الفلسفة يرون أن أثر هايدغر في الفلسفة الوجودية وفي الفلسفة الأوروبية بوجه عام، أقوى من أثر سارتر. فابحاثه الفلسفية أكثر رصانة ومتانة، وأبعد عن الثرثرة التي اشتهر بها سارتر في مؤلفاته والتي الحقته «بالأدب» أكثر مما الحقته «بالفلسفة». ومن مظاهر رصانة هايدغر أنه عندما أصدر كتابه الأساسي: «الوجود والزمن»، عام 1927، وضع على غلافه عبارة الجزء الأول لأنه كان ينوي أن يصدر أجزاء لاحقة منه. إلا أن هايدغر الذي عاش بعد ذلك حوالي خمسين عاماً، تهيّب في أن يعود إلى هذا الكتاب فيما بعد ويكمل الأجزاء التي وعد بها، أو دارت في باله عند وضع «الجزء الأول». وقد ذكر فيما بعد أنه عجز عن الوصول إلى قناعات تامة حول المواضيع الفلسفية التي كان ينوي معالجتها، فاحجم عن الخوض فيها. في حين أن سارتر كتب ما لا يُحصى من الكتب الفلسفية، وغير الفلسفية، عن الوجودية، والتي ليس لأكثرها قيمة الآن. ومع أن دارسي تراث هذين الفيلسوفين يجدون أوجه تعارض كثيرة بين «وجودية» كل منهما، إلا أنهم متفقون على وجود أوجه شبه كثيرة بين سيرة كل منهما، وبخاصة في العلاقة مع المرأة، أو مع النساء على الأصح. ذلك أنهما كانا متفقين كل الاتفاق على أن المرأة ليست مستقبل الرجل وحسب، بل هي حاضره أيضاً، بل كل شيء في هذا الحاضر، ومن يدرس سيرة كل منهما يجد أنه كان تحت تصرفهما باستمرار جيش لجب من «النساء». فسيمون دو بوفوار لم تكن في حياة سارتر سوى المرأة الرسمية أو المرأة المشهورة لا أكثر، في حين أنه عرف، أثناء وجوده مع سيمون، نساء بلا حصر تصدر حولهن الآن كتب متعددة في باريس تروي ما لا يمكن أن يصدق عن مباذل هذا الفيلسوف، وعن هوسه اللامحدود بالنساء. أما هايدغر الذي تزوج «الفريدة» وانجب منها، كما انجبت هي من سواه، وهي في عصمته، فإنه سرعان ما ملّ عشرتها ليمضي حياته متنقلاً بين تلميذاته، وغير تلميذاته، وليصنفه دارسوه اليوم على أنه فيلسوف عظيم، وزير نساء من الطراز الأول. وقد نشرت «دار شبيغل» الألمانية في أحد أعدادها الأخيرة تحقيقاً موسعاً عن هايدغر تحدثت خلاله عن نسائه حديثاً مستفيضاً، ومن هؤلاء النساء الباحثة الفلسفية اليهودية حنّة أَرْدِتْ التي كانت إحدى تلميذاته. وتقول المجلة أن زوجة هايدغر، الفريدة، اضطرت للاعتراف بهذه العشيقة وللتعايش معها في آن. ولكن البداية كانت بداية عاشق لا بداية دون جوان. فإلى «الفريدة» كان يكتب هايدغر: «تعالي أوحي واستريحي فوق قلبي، بعمق شديد واستكانة أبدية. أريد أن أنظر إلى عينيك الممتلئتين بالحكايات. هل تملك يداي القداسة الكافية لتطوّق رجفات يديك؟ هل روحي التي ضربت بالسياط خلال كل هذه الظلال من الشك والتساؤل، قادرة على أن تضع لك تابوتاً يحتفظ بحبك إلى الأبد؟ سامحي صغيرك الشاب، وأعذري عدم هدوئي أيام الأحاد»! ويبدو أن عدم هدوء هايدغر أيام الأحاد انتقل إلى أيام الأسبوع كله، فعمل على احياء فلسفة عمر الخيام بوعي منه أو بدون وعي. ما أضيع اليوم الذي مرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشقا ولعل الكلمة الأدق هي أن هايدغر وفّق بين عذاب المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، وبين انشغالات القلب اليومية العاطفية. وقد دام هذا التوتر في حياته أكثر من نصف قرن، وحتى موته عام 1976. أما الرسائل التي تحكي ذلك التوتر، والتي كان يوجهها إلى زوجته «الفريدة» فقد أصبحت بمتناول الجميع لأنها صدرت حديثاً في مختارات موسعة تمتلك غيرثرود هايدغر، حفيدة الفيلسوف من ابنه يورغ حقوق نشرها. ولد يورغ هايدغر عام 1919. وبعد عام واحد ولد شقيقه هيرمان من أمه. وهيرمان هو الذي يرعى اليوم المجموعة الكاملة للكتابات ومحاضرات هايدغر. وقد علم هيرمان، وهو في الرابعة عشرة، أن هايدغر لم يكن والده الحقيقي (وذلك بعلم هايدغر أيضاً). في ذلك الوقت، اعترفت الفريدة لهيرمان، أن والده الحقيقي هو صديق طفولتها فريدرل سيزر، وهو طبيب وعرّاب للابن هيرمان. وقد توفي هذا الطبيب عام 1946. وقد الزمت الفريدة هيرمان بألا يبوح بسرّ أبوة أبيه إلا بعد وفاتها (توفيت عام 1993) وفقط للمرأة التي سيتزوجها. وقد حافظ هيرمان على هذا الوعد، إلا أنه حرر نفسه فيما بعد منه في كلمة اعتراف كتبها في ختام مجموعة الرسائل. وقد دام ذلك الوضع 71 عاماً.. خيانة الفريدة لهايدغر، وإن خلّفت ابناً للفيلسوف يعيش في بيته، وليس من صلبه، لم تكن أكثر من قطرة في بحر خيانة هايدغر لزوجته. ويبدو أنه هو الذي بدأ بمسلسل الخيانة وأن زوجته لحقت به فيما بعد، بدليل أنها كتبت إليه مرة تقول: «كيف مزقت ذاتي التي كان عليها أن تتحمل هذه الاساءات اللاإنسانية بسب اخلاصها لك. وذلك ليس لمرة واحدة فقط، بل لمرات عديدة متكررة طوال أربعة عقود. هل باستطاعة إنسان، إن لم يكن شجراً أو سطحياً، تحمل هذا؟ دائماً تقول وتكتب أنك مخلص لي ومرتبط بي.. ما هذا الرباط؟ إنه ليس الحب، وإنها ليست الثقة. أنت تبحث عن وطن عند النساء الأخريات. يا مارتن! هل تعرف ماذا يوجد في داخلي؟ وهل تدرك كم هي موحشة، جامدة، ومثلجة، أعماقي؟ أمضى هايدغر عام 1970 وقته في أوغسبرغ (مدينة ألمانية) حيث كان على موعد غرامي. وهناك حدث الأسوأ: جلطة دماغية! أرجعته سيارة إسعاف إلى البيت. وتحت رعاية زوجته الفريدة تعافى من جديد. بعد ذلك انتقل الزوجان إلى مسكن هخاً بُني لهما، خلف أحد المباني المخصصة للمسنين. ومنذ ذلك الوقت لم يفترقا. هنا تتوقف المغامرات العاطفية وتنقطع الرسائل بين هايدغر وعشيقاته. في صباح يوم السادس والعشرين من ايار 1976 لم يستيقظ هايدغر من نومه. في الليلة التالية نامت الفريدة إلى جانب جثة هايدغر على فراش الموت. وعلى الأقل، استطاعت «روحي الأعمق حباً في قلبي»، أن تحب حقاً زوجها في الليلة الأخيرة. هذه ملامح من السيرة العاطفية لهايدغر. أما سارتر فقد كان نشطاً عاطفياً مثله، إن لم يكن أكثر نشاطاً عاطفياً منه. وفي بحر الكتب التي صدرت في فرنسا منذ وفاته إلى اليوم، حول سيرته، ما يجعل المرء حائراً في أيهما كان أخصب عاطفياً من الآخر: هايدغر أم سارتر. ومن طريف ما تحويه هذه الكتب اضطراب رفيقته أو عشيقته الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار إزاء مغامراته العاطفية: فهي تغار حيناً من محبوباته، وهي تعمل على تزويده، حيناً آخر، بمحبوبات جدد، بعضهن في سن المراهقة. ومن بين الكتب التي صدرت في فرنسان، حول سيرته، كتب كتبها بعض هؤلاء المراهقات حيث يصفن سارتر في مباذله معهن، وصفاً قد لا يظن أحد أن فيلسوفاً كبيراً مثله يمكن أن يعيشها ومع أن المرء قد يظنّ أن سيمون دو بوفوار كانت رفيقته، لا رفيقته أي شخص آخر إلا أن هذه الدراسات الفرنسية تؤكد أن سيمون كانت مثله تنتقل من عشيق إلى آخر، وإن كان سارتر هو العشيق الرسمي أو العشيق الأول. ويبدو، استناداً إلى هذه الدراسات، أن الصهيونية العالمية تسللت إلى فكر سارتر ومواقفه السياسية، عن طريق سيمون هذه. فقد دسّت كاتباً صهيونياً فرنسياً اسمه كلود لانزمانا على سيمون فتحول إلى عشيق لها. وعن طريق هذه الصلة أصبح مدير تحرير مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان يصدرها سارتر، كما أصبح الشخص السري الحقيقي الذي يصيغ مواقف سارتر من قضايا كثيرة منها قضية الصراع العربي/ الإسرائيلي. وكان سارتر أثناء تسلل لانزمانا إلى قلب سيمون في زيارة إلى الولاياتالمتحدة. وهناك ارتبط بعلاقة عاطفية مع امرأة أميركية. وبعد ذلك قامت سيمون بإنشاء مثل هذه العلاقة مع كاتب أميركي آخر، ربما على أساس المعاملة بالمثل. وهكذا نجد أن الوجودية الألمانية وإن اختلفت في قليل أو كثير عن الوجودية الفرنسية، فإن زعيمي هاتين الوجوديتين أمكنهما عقد اتفاق غير مباشر بينهما موجزه أن المرأة ملكية عامة أو مشاعية للرجل!