مدخل ( يا زمان العجايب وش بقى ما ظهر ) نردد هذا الشطر من قصيدة خالد الفيصل كل يوم وكل ساعة نرى فيها عجائب هذا الزمان وأهله , , والمؤسف أن أكثرها بات يدل على تراجع كبير في سلوكياتنا وفي التزامنا بثوابت أخلاقنا. ( من غشنا فليس منا ) حديث عن الهادي البشير حفظه الجميع ونردده دائماً , ولكن قليلا منا من يعمل به في تصرفاته الفردية , ومع كثرة التجاوزات وتشعبها أصبحنا لا ننكر ما يستجد من أمور سلبية , بل أصبحنا نستمريء أخطاءنا وننظر لها نظرة عادية , والأسوأ من ذلك أننا نضع لكل تجاوز مبرر نقنع به أنفسنا من أجل أن يستمر الحال على ما هو عليه . الحقيقة منذ أمد طويل كثر الجدال حول بيع الشعر , ولم يكن أحد يؤكد أو ينفي , لأن عمليات البيع والشراء كانت تتم في إطار من السرية لعلم البائع والمشتري بقبح هذا السلوك , أما الآن فالحقيقة واضحة وضوح الشمس ولا يستطيع أحد نفي ظاهرة بيع الشعر , فلم يعد الحياء رادعاً لبائعي الشعر وهاهم يجاهرون بذلك عبر اعلاناتهم في صحفنا المحلية التي بدأت تتزايد في الآونة الاخيرة عارضين خدماتهم أمام من لا يملك موهبة الشعر ويملك المال , ليصبح شاعراً بين عشية وضحاها . بدأ هؤلاء المرتزقة من الشعراء أول ما بدأوا باعلانات عن استعدادهم لعمل الزفات أو قصائد الأفراح , وقصائد الزفات لا تنسب لأحد بعينه فهي تقال في العريس والعروس , لذلك لم يكن أحد لينكر اعلاناتهم بهذا الخصوص , ولأن العملية مربحة بشكل كبير ورأس المال أبيات شعر تنظم , سال لعابهم لجني أرباح أكثر , فقرروا التوسع في خدماتهم بشكل أكبر وإن كان فيه وأد للأمانة الأدبية وغش ظاهر , لقد أباح هؤلاء لأنفسهم تضليل الآخرين وبيع مشاعرهم لمن يدفع أكثر . اضافوا لاعلاناتهم السابقة عبر الصحف عبارات تدل على استعدادهم للكتابة في مجالات الشعر الأخرى (المدح , الغزل , الرثاء ... الخ ) وذلك لمن يطلب ويدفع بحيث تصبح القصيدة له وتنشر وتظهر للناس باسمه رغم أنه لم يكتبها ولم يخط فيها حرفاً واحداً . طبيعة السوق لكي تتضح الصورة أمام الجميع ولمعرفة الطريقة المتبعة لدى هؤلاء قمنا بالاتصال على أحد الذين امتهنوا بيع القصائد بعد أن اطلعنا على اعلان له نشر بصحيفة محلية , وتظاهرنا بأننا نريد التعامل معه لشراء قصيدة , فدار بيننا هذا الحوار: ألو مساء الخير , قرأت لكم اعلان عن استعدادكم لعمل قصائد. السمسار : حياك الله , نعم حاضرين للطيبين . أريد قصيدة مدح في (.............. ) . السمسار : كم بيت تريدها . حوالي عشرين بيتا . السمسار : مش مشكلة , لكن لا تنسى أن (............ ) شخصية لها حجمها والمدح فيه ليس بالسهولة . يعني كم بتكلفني القصيدة ؟ السمسار : في الحقيقة ليس أقل من ستة آلاف , وتأخذ لك قصيدة على الشرط ما كتبها شاعر في الدنيا . بس هذا مبلغ كبير . السمسار : لا مش كبير , غيرنا توصل أسعارهم الى عشرة آلاف , أنا فقط منحتك سعرا خاصا لأن تعاملك معنا لأول مرة . طيّب , أخشى أن القصيدة لا تعجبني. السمسار : طريقتنا أننا أولا نرسل لك المطلع فإذا أعجبك ترسل لنا العربون وبعد ثلاثة أيام نقرأ لك القصيدة كاملة وقبل استلامها مطبوعة جاهزة تدفع لنا بقية المبلغ. طيّب , أخشى أن القصيدة متكررة , يعني كتبت لشخص غيري . السمسار : لا لا عملنا بضمير وأمانة ومن المستحيل أن نسلك هذا السلوك , والشعراء الذين يكتبون لعملائنا أقوياء ومعروفين ولا يكررون القصائد . يعني أنشر القصيدة باسمي على مسئوليتك ؟ السمسار : نعم وهذا كلام رجال , وقبلك كثيرين نشروا وما زالوا وهم معنا مرتاحين ولا مشاكل أبدا. وبالنسبة اذا بغيت قصيدة غزلية ؟ السمسار : نفس الشيء عطنا أفكارك ونصيغها مثل ما تبي , أو اذا بغيت جاهز موجود وأرخص ويصل بعضها الى ألف ريال . طيب , سأتصل بك لاحقا . السمسار : لا تتأخر علينا نخاف من زحمة العمل بعدين ما نقدر نخدمك ! هذا هو نص الحديث كما دار بيننا وبين الأخ الذي يدير شبكة من الشعراء المعروفين وقد يكون غير صادق , فلربما كان هو فقط من يكتب لزبائنه المغفلين , وسواء كان معه شعراء معروفين أو كان لوحده فالأمر سواء , والعبرة بالعواقب الوخيمة . العواقب ليس الأمر مجرد قصائد تنظم وتنسب لغير أصحابها ممن حرموا من موهبة الشعر ويسعون للأضواء أو لتحقيق مصالح معينة, الأمر أكبر من ذلك بكثير خاصة أنه يمارس بشكل علني وأمام الجميع , وعواقب هذه الظاهرة لا تحتاج لتفكير عميق لكي نستنتجها , فنحن أمام وقائع غش وتدليس وقتل للأمانة الأدبية , وهذا يعني أيضاً أننا مقبلون على أجيال من الشعراء والأدباء المزيفون , وإن كانت البداية بالقصائد الشعبية فإن الأمر قابل للتطور , ولن يقتصر على الشعر الشعبي فحسب , وقد نرى في المستقبل القريب اعلانات مشابهة لمن يريد أن تكتب له مقالة أدبية أو صحفية أو حتى مؤلف كامل , وغير ذلك من أنواع الإبداع . ماذا ننتظر في الحقيقة ان أمثال هؤلاء المرتزقة من ناظمي الشعر يستغفلون الجميع , بكل جرأة وبرود أعصاب , واعتمادهم على المغفلين والسذج الذين يحرصون على لقب شاعر وإن كان بالزيف والتدليس . والمؤسف حقا أن نرى في صحفنا المحلية من يسمح لهم بنشر اعلانات سيئة الدلالة كهذه , لا تمس أشخاصا معينين , بل تمسنا جميعا وتعطي للآخرين انطباعاً غير محمود عن طرق تعاطينا الأدب والابداع , وأن المال لدينا يشتري كل شيء , لذلك من الضروري أن تمنع اعلانات من هذا القبيل وأن تتدخل وزارة الثقافة والاعلام لمنع الصحف والمجلات المحلية من الترويج لتجارة الشعر وانقاذ ما تبقى من الأمانة الأدبية.