حين يتحول الذكاء الاصطناعي من لغة نخبوية إلى مهارة يتقن استخدامها الجميع، يصبح الحاضر أكثر قابلية للفهم، والمستقبل أرحب أفقاً، وتكتسب التقنية ملامح إنسانية، وتتحول من أداة جامدة إلى داعمة ورافعة، تُعيد الإنسان إلى مركز التحوّل، لا إلى هامش الاستخدام فقط. ففي زمن يتسارع بخطى الذكاء، لم يعد الانتظار خياراً، بل باتت المشاركة في صياغة متطلبات الغد واستشراف مساراته ضرورة مُلحة. في هذا السياق، تتقدم المملكة كمثال لدولة لا تكتفي بالمواكبة، بل تصنع السبق. تخطط وتنفّذ، وتُسرّع من تبني التقنية، وتسابق الزمن في تعليمها واقتنائها، تشجيعاً وابتكاراً، استخداماً وإبداعاً. ولأن مستقبل الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية وعالمية، استضافت المملكة «مؤتمر القدرات البشرية» في نسخته الثانية بالرياض، يومي 13 و14 أبريل 2025، تحت شعار: «ما بعد الاستعداد للمستقبل». قدّم المؤتمر رؤية استراتيجية متقدمة، تقودها مبادرات وطنية يتبناها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ومن بين أبرز الجلسات، برزت جلسة لافتة بعنوان: «إتاحة مهارات الذكاء الاصطناعي للجميع». برؤيتها المتقدمة، تسابق المملكة الزمن في إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية، لا بوصفها أدوات فاعلة، بل كمسارات تُضاء بالمعرفة وتُوجَّه نحو خدمة الإنسان وتمكينه. ينعكس هذا التوجّه في كل مبادرة تُطلق، وفي كل شراكة تُبرم، وفي واقعٍ يتحرك ببرامج ومشروعات تستهدف إدماج الذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية. ومن خلال «مؤتمر القدرات البشرية»، الذي حمل بشائر علمية وعملية معاً، أُطلقت مبادرات نوعية لبناء مسارات واقعية، كان من أبرزها دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج التعليمية، وتدريب المعلمين والموظفين، وتوسيع فرص التعلّم المفتوح للجميع دون حواجز، بما يرفع من مكانة رأس المال البشري كطاقة مبدعة، متجددة، وشاملة. ولكي تزدهر بيئة المعرفة، ينبغي ردم الفجوة بين من يمتلك أدوات التقنية ومن يجهلها، وذلك عبر تبسيط المفاهيم، واعتماد مناهج تعليمية وإعلامية فعّالة، وإنتاج محتوى توعوي مختصر يصل عبر المنصات الاجتماعية إلى الناس بلغتهم، لتغدو التقنية مفهومة وقابلة للتبنّي. ولأن المعرفة لم تعد حكراً على المختصين، فإن إشراك الجميع -من أولياء الأمور إلى غير المتخصصين- أصبح ضرورة، حتى تتحوّل التقنية إلى وعي مجتمعي لا إلى مهارة نخبوية. وفي هذا السياق، تنوّعت المبادرات الهادفة إلى بناء مجتمع رقمي واعٍ، كان من أبرزها ما قامت به الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) من جهود نوعية في هذا الاتجاه، كما برزت مبادرة «سماي» بوصفها أكبر مبادرة وطنية مستقلة من نوعها، أُطلقت بمشاركة عدد من الجهات التعليمية والتقنية والتنموية، وتهدف إلى تمكين مليون مواطن ومواطنة من أدوات الذكاء الاصطناعي، فهماً وتطبيقاً وتوظيفاً. فالتحدي اليوم لم يعد في مواكبة التقنية فحسب، بل في ضمان الوصول إليها. فلا نهضة تُبنى دون إنسان واعٍ، يصوغ أدوات العصر، ويفهم مساراته، ويشارك في توجيهها. وإن كان الذكاء الاصطناعي يتقدّم بخطى واسعة، فإن الاستجابة الحقيقية لا تكمن في مواكبته فقط، بل في تحويله إلى فرصة متاحة للجميع. فالمستقبل لا يُنتظر... بل يُصنع، وهذا ما تمضي فيه المملكة، بثبات رؤيتها، وصدق عزمها، وإرادة لا تلين.