ليس كل الآباء آباء، فقلة منهم يتجاوز دوره التقليدي، في توفير المأكل والمسكن ونحوهما، فيمسي القدوة والمُعلم والموجه، ليصنع من أبنائه وبناته مشاريع حياة ناجحة، وبيوت حكمة وعقل، وأبي الغالي كُلّ ذلك وأكثر. علمني أبي "سلطان بن عبدالعزيز السلطان" أن الرجولة ليست شِدة وجلافة، بل حزمٌ ووضوح، وأن الكلمة الطيبة تُثمر ولو بعد حين، وأن الصمت -في وقته- ليس فقط حكمة بالغة؛ بل رسالة مؤثرة. رباني على أن العقل زينة الإنسان، وأن المبادئ والقيم خط أحمر لا يمكن المساومة عليها، مهما كانت المغريات أو الضغوط، وأن النية الطبية وحدها لا تكفي، إذا لم تكن لماحاً وملتزماً، وأن الشجاعة والإقدام لا يغنيان عن التروي والحذر، وكان دائماً يؤكد على ضرورة عدم التردد في أخذ القرار، لكن بعد أن تستكمل جمع المعلومات، وتستخير رب العالمين، وتستشير الناصح الأمين. مكتبة والدي الثرية كانت منارة إشعاع منزلنا، موسوعات ومعارف جُمعت بعناية، حتى ملأت صالة واسعة، قضيت أياماً وسهرت ليالي في قراءة معظمها، وسعدت بتصنيفها، وللحق كانت نقطة تحول في بنائي الثقافي والفكري المتين. علمني أبي أن التخطيط هو جوهر النجاح، لأن العمل الدؤوب بلا خطة مجرد تعب ونصب بلا نتيجة، وأن إتقان التخطيط يختصر المسافات ويقرب الهدف، وهو ما رأيته في جميع أعماله. وبالطبع أن اجتهد وأخلص في عملي، رغم التحديات والصعوبات، إذ كان خير قدوة لي في الالتزام الوظيفي حتى تقاعده قبل سنوات، بعد مسيرة وظيفية مشرّفة. علمني أبي أن الوقت إذا مضى لا يعود! وأن أجعل كل دقيقة إضافة لمسيرة حياتي، حتى لو كانت مساحة راحة واسترخاء، وهذا ما زرعه لدى إخوتي من تقديس الوقت، وبالتالي الالتزام بالمواعيد. علمني أبي أن أدّخر، ليس بُخلاً بل تقديراً للمستقبل، وأن اقتطع منه نافذة للاستثمار الحذر، ومظلة للأزمات، وألا أخجل من البدايات الصغيرة، فكل عظيم بدأ من خطوة بسيطة. علمني والدي أن أنتقي أصدقائي، وأن أختار من يضيف لي وأضيف له، وليس من يصفق لي فقط، وأن اختبرهم، حتى أميز الصادق الأمين، فيكون خير معين ورفيق درب. لكن أهم ما علمني والدي الغالي هو: أن العائلة هي أغلى ما تملك، وهي ما يجب أن تستثمر فيه مالك ووقتك وجهدك، فالعائلة تبقى ولن تتغير، وهم من يفرح لفرحك ويواسيك لحزنك، وهم من يدعمك ويساندك في كل شيء، وهنا تعلمّت من أبي أن جنة الرجل هي منزله! ففيه يسكن لعائلته، وفيه يربي ذريته، ويزرع فيهم الفضائل والأخلاق حتى يحصد الخيرات والبركات لاحقاً. أطال الله في عمر والدي ومتعه بالصحة والعافية ورحم والدتي الغالية، وحفظ لكم أحباءكم أعزائي.