من أجمل نعم الله علينا نعمة البصر، وما يزيد هذه النعمة جمالاً هو قدرتنا على أن نرى الألوان. فالحياة من دون ألوان تبدو كئيبة وباهتة ومملة، بينما تبعث الألوان الفرح والمتعة والتجدد. لذلك نرى الطبيعة من حولنا غنية بها بشكل ملفت للنظر. فعلى سبيل المثال للربيع ألوانه الخاصة بسبب تفتح الزهور واكتساء الأشجار بالأوراق وتزين السماء بالغيوم البيضاء. وللغروب ألوانه المتميزة خاصة في الأيام المشوبة بالغيوم. ويمتد اللون ليغطي كل ما حولنا وعلى كافة المقاييس، فالأحجار تتمتع بألوان لا حصر لها، وكذلك الزهور وأوراق الشجر والتربة والحيوانات والطيور وحتى الإنسان. وقد أبدع الإنسان في استخدام اللون في كل مناحي حياته، فالطعام كما يقال أشكال وألوان كناية عن تعدد أنواعه وألوانه أيضاً. وتظهر فكرة تقديم الطبق بنفس أهمية نوعية الطبق لذلك يركز الطباخون على كيفية تزيين الصحون لتبدو جذابة وشهية تأسياً بالمثل القائل: (العين تأكل قبل الفم). والمعلوم أنهم يعتمدون في تزيينهم للصحون على اللون كعنصر أساسي في التكوين البصري لها. ويأتي الملبس مباشرة بعد الأكل من حيث الأهمية عند معظم الناس، فنحن في أوقات فراغنا أما في المطاعم نأكل أو في الأسواق نشتري الملابس. ولا يخفى على أحد كم للون من أهمية قصوى بالنسبة للملابس فكل صيحة لها ألوانها المتميزة وتناسقها اللوني الخاص. وما قيل عن الأكل والملابس يقال عن الألعاب والسيارات والأدوات. والعمران كجزء مما ينتجه الإنسان لا يشذ عن هذه القاعدة، فاللون أداة فاعلة من أدوات التكوين البصري لي مبنى. وقد استخدم في معظم الحضارات والثقافات بدءاً من القرى ووصولاً إلى العمران المعاصر. فقد اعتمد أهل القرى في مناطق مختلفة من العالم على اللون في تكوينات الواجهات الخارجية لبيوتهم كما استخدموه في الداخل. مثال ذلك القرى الأفريقية وقرى أمريكا اللاتينية وقرى مناطق البحر الأبيض المتوسط. يعود الاهتمام بالألوان لأسباب كثيرة يصعب حصرها هنا، ولكن من المعروف أن الإنسان يتعلم من بيئة المحيطة ويقلدها فيما يصنع. وكثيراً ما يبالغ بإظهار ما تعلم، فأهل القرى الذين يعيشون بين مسطحات هائلة المساحة وذات لون واحد كالسماء أو الصحراء أو الحقول الخضراء يتفاعلون بشدة مع الألوان الموسمية التي يرونها كتفتح الأزهار فيحاولون الإبقاء عليها لتذكرهم باللحظات الجميلة. يتم الاحتفاظ بهذه الألوان من خلال استخدامها في الأشياء التي يصنعونها ومن ضمن هذه الأشياء بيوتهم. لذلك نرى الجدران والأبواب والنوافذ في مناطق كثيرة غنية بالألوان الفاقعة أو الحارة لتوازن الرتابة اللونية المحيطة. وبغض النظر عن مسببات استخدام اللون تبقى النتيجة واحدة وهي أن العمران واللون تلازما على مر العصور. نعرف مثلاً أن المصريين القدامى قد أبدعوا في صناعة اللون واستخدموه في معابدهم ومقابرهم وقصورهم. ومن المؤكد أن تطور صناعة الألوان في مصر القديمة دليل قاطع على أهميته في حياتهم. ثم تعلمنا أخيراً أن الرومان قد تفننوا في استخدام اللون في مبانيهم فكانت فرحة وغنية وجذابة. فنرى اليوم في التصورات الحديثة لما كانت عليه العمارة الرومانية أطنانا حمراء وأسقف صفراء وجدران زرقاء. أما المسلمون فقد اتسمت عمارتهم أيضاً بالغنى اللوني الشديد، حيث برعوا في تطوير الأشكال الهندسية والمنمنمات والزخارف والخطوط مستخدمين اللون كعنصر رئيسي في تكويناتهم. فقصر الحمراء في غرناطة والجامع الأموي في دمشق وجامع السلطان أحمد في استنبول أمثلة قليلة لعدد لا حصر له من آثار إسلامية كان للون أثر واضح في إنجاحها. ومرت فترات انحسر فيها اللون عن العمران فظهرت المباني بلون واحد هو لون مادة البناء كالحجر أو الطين. من أشهر هذه الفترات فترة عصر النهضة في أوروبة التي اعتمدت في فكرها المعماري على العمارتين الإغريقية والرومانية. يقول مؤرخو العمارة أن معماري فترة عصر النهضة درسوا هاتين العمارتين لتكونا دليلهم ونقطة انطلاقهم. وقد رأوا هاتين العمارتين عاريتين تماماً عن اللون فافترضوا أنهما كانتا دوماًُ كذلك، لذا تطورت عمارة عصر النهضة التي بنيت على أنقاض العمارتين الرومانية والإغريقية بعيدة عن اللون مظهرة مادة البناء المستعملة، وهي الحجر، بشكلها الطبيعي. ولا يمكن إنكار جمال عمارة النهضة مع عدم اعتمادها على اللون ذلك لأنها كانت تملك مقومات فنية هائلة أخرى جعلتها ذات تميز وخصوصية، وثانياً لأنها لم تهمل اللون كلياً وإنما لم تستخدمه كعنصر مضاف على المبنى، واكتفت باستخدام اللون الطبيعي للحجر الذي لا ينقصه التنوع والجمال. ومرت فترة أخرى حجم فيها اللون واكتفى المعماريون بلون مادة البناء متأرجحين بين الأبيض والأسود مروراً بكل الدرجات اللونية بينهما. كانت تلك فترة الحداثة التي بدأت مع العشرينات إلى حوالي السبعينات من القرن المنصرم. ولكن المشكلة أن مادة البناء في تلك الفترة وهي الخرسانة المسلحة لم تكن ذات جمال متميز، فهي رمادية باهتة لا شخصية لها. وهكذا انتصبت في مدن العالم كله مبان كالحة تزداد قماءة مع الزمن لتراكم الغبار والأتربة على جدرانها. وكنتيجة لملل الناس واستيائهم من تلك العمارة الباردة حدثت ردة فعل معاكسة لها مبنية على قواعد فكرية مختلفة ومناقضة أو متعارضة مع العمارة الحديثة من مناح عديدة. ولكن يعنينا هنا الناحية اللونية فقط. سميت الحركة المعمارية المعاكسة عمارة ما بعد الحداثة وتبنت العمارة الإغريقية والرومانية كجذور لها، الأمر الذي يذكرنا بجذور عمارة عصر النهضة. ولكن مع ذلك ظهرت هاتان العمارتان، عصر النهضة وما بعد الحداثة، كعمارتين مختلفتين عن بعضهما البعض بشكل واضح . إحدى نقاط الاختلاف هي استخدام اللون ويعود ذلك إلى أن عمارة عصر النهضة لم تستخدم اللون لأن رجالاتها ظنوا أن العمارتين الإغريقية والرومانية لم تستخدما اللون كما ذكرنا سابقا. إلا أن الاكتشافات الأثرية الحديثة التي أثبتت استخدام اللون في العمارة الرومانية جعلت معماريي ما بعد الحداثة يعتمدون على اللون بشكل كبير خاصة بعد فترة الفقر اللوني التي لازمت العمارة الحديثة. وبدأت مدن العالم بالتألق بأبنية جذابة وغنية باللون. رافق ذلك تطور واضح في الاكساءات التي تنوعت من حيث الماجدة والملمس وكذلك اللون مما أعطى المعمار المعاصر فرصا أوسع للتنويع اللوني. ولكن كالعادة يرافق أي تجديد احتمالات واسعة من سوء الاستخدام ، فقد فتن الناس بكثرة الألوان وتعدد المواد فأفرطوا في التنويع في البناء الواحد حتى ظهرت بعض المباني منافية للذوق وأحيانا مضحكة . لذلك عندما نتحدث عن اللون في العمارة لابد من الانتباه إلى أمرين اثنين: أولهما هو ما ذكر آنفا من أن للون أثرا كبيرا في إعطاء العمارة أبعاداً جمالية لا يجب اعتبارها إضافية وإنما ضرورية ومطلوبة وقد سعى إليها الإنسان في معظم أعماله المعمارية. وثانيهما أنه يجب الاعتماد على أسس عملية وفنية للوصول إلى التكوين اللوني المتميز والجذاب. وفي الحقيقة فقد تطورت مع الزمن نظريات ومبادئ وتوجهات كثيرة بالنسبة للدراسات اللونية. بعضها يعتمد على النواحي النفسية للإنسان مفادها أن للون اثرا في تحديد أو توجيه أحاسيسنا ومشاعرنا، فاللون الأزرق مثلاُ مريح للأعصاب لذلك يستخدم في المشافي، بينما يساعد اللون الأخضر في النشاطات الفكرية لذلك يستخدم في سبورة الدراسة. أما اللون الأصفر فإنه يبعث شعوراً بعدم الارتياح التام لذلك يستخدمه كثير من أصحاب المطاعم السريعة في تصميماتهم الداخلية كي لا يبقى الزبائن فترات طويلة في المطعم مما يسمح لغيرهم بالدخول . أما المحور الأهم في الدراسات اللونية فهو المعتمد على النظريات الفنية. هدف هذه النظريات الوصول إلى قواعد تشكيلية لتركيب الألوان مع بعضها البعض للحصول على أعلى متعة جمالية ممكنة. تعتمد هذه النظريات على أسس التشكيل بصورة عامة كالتوازن والتكرار والإيقاع والتضاد . ضمن هذه الأسس صار للألوان نظرياتها الخاصة، فعلى سبيل المثال ، نذكر نظرية تجانس وتضاد الألوان التي تعتمد عليها المصممون في اختيار ألوان مشاريعهم. تعتمد تطبيقات هذه النظرية على ترتيب خاص للألوان تظهر من خلاله الألوان المتجانسة مجاورة لبعضها البعض بينما توضع الألوان المتضادة بشكل متقابل. يسمى هذا الترتيب الخاص دائرة الألوان. يختار المصمم مجموعة ألوان متجانسة مع بعضها البعض وفقاً لهذه الدائرة ليضمن وصوله إلى تشكيل مقبول، ثم يستخدم في بؤرة محدودة المساحة ولكنها مهمة في التكوين لونا مضاداً للألوان التي استخدمها في التشكيل الأساسي . على الصعيد العمراني، يتبع المصمم أساليب مشابهة في دراساته لواجهات المباني، فمثلاُ يستخدم لوناً حاراً لمدخل المبنى للتأكيد عليه بينما يعطي المبنى كله لوناً بارداً أو حيادياً. وقد يعطى سقف المبنى لونا غامقاً بينما يستعمل لونا فاتحاً على معظم مساحات الجدران كي يمنح السقف ثقلاً إضافياً ليضغط بصرياً على المبنى ويثبته في الأرض. وعلى العكس من ذلك يمكن للألوان الفاتحة أن تجعل المبنى خفيفاً وكأنه حر من قيود الموقع . للون إمكانيات هائلة من النواحي الجمالية والإيحائية والنفسية يمكن للمهتمين بأمور العمارة والعمران التنبه لها والإفادة منها. ويمكن أن تتم الاستفادة من اللون بمميزاته وإمكانياته على كافة الأصعدة المتعلقة بتصميم البيئة بدءاً بالمبنى المنفرد مروراً بالفراغات المفتوحة على أنواعها ووصولاً إلى الحدائق. من خلال دراسات لونية سليمة سيكون من الممكن تحويل المساحات الخرسانية والمسطحات الإسفلتية التي تشكل معظم رقعة مدننا إلى أماكن أكثر بهجة وجمالا ليس بطلائها بالدهانات بشكل عشوائي وإنما عن طريق اختيار تشكيلات لونية مدروسة في نقاط محدودة تقوم بالمهمة المطلوبة . أستاذ مشارك، قسم عمارة البيئة كلية العمارة والتخطيط، جامعة الملك فيصل اللون يدخل عنصر أساسيا في شكل البناء