«تسيل أم زيه» المدينة النمساوية الحالمة على جبال الألب، والتي تعتبر الوجهة السياحية المفضلة والأجمل للقادمين من الشرق الأوسط إلى أوروبا في الصيف، هذه المدينة القابعة على أحد الأودية المطلة على بحيرة «زيل» بمناظرها الخلابة وأجوائها المعتدلة الباردة، تتوقف فيها الحركة حد الجمود في فصل الشتاء، وذلك لأنها تكتسي بكاملها بالثلوج وتتجمد بحيرتها، فيتوجه أغلب الناس إلى مدينة سالزبورغ التي تبعد عنها حوالي الساعة، وفي الأجواء الأوروبية الباردة جداً يصبح تحرك الناس محدوداً بعد أداء أعمالهم، ليتحولوا إلى المكوث في بيوتهم وأكواخهم حول المدفأة، ويعكفوا غالباً على القراءة. وطبيعة الشتاء حتى في أجوائنا القارية حين تشتد البرودة يصبح الناس (بيتوتيين )، فلا يتحركون أو يتنقلون كثيراً إلا بما تمليه الظروف أو تتطلبه الضرورة، ويكون تواجدهم في منازلهم أطول فترة ممكنة، وخاصة في المساء حين يطول الليل ويأخذ من ساعات النهار. هذه الحالة الزمنية والمناخية والحولية جميله، بالقدر الذي يجعلنا نستثمرها في الأسرة بطريقة تزيد الألفة والمحبة بين أفراد البيت الواحد، وهي فرصة جيدة حين نستغلها في التواصل الذي ربما يكون مفقوداً طوال العام، لكن حينما تتحول ساعات الليل الباردة الطويلة، وتتحول دقات الساعة إلى صوت رتيب في بيوت تجمع الناس وقلوبهم شتى، فتجد كل واحد منهم في غرفته منعزلاً عن الآخر بأجهزته اللوحية والذكية، فهم حينئذ يكرسون العزلة والفرقة والجفاف العاطفي الذي يزيد من الجفاء النفسي والروحي بينهم. أتذكر قبل ثلاثة عقود، كنت وعدد من الأصدقاء من الجيران نستمتع بالشتاء كثيراً ونفرح بقدومه، ذلك أنه فصل يتحول في عالمنا الطفولي إلى طقوس جميلة، تبدأ بالتحلق حول النار التي نشعلها في وسط الأرض الفضاء الواسعة الواقعة أمام بيوتنا، فنسعد بدفئها وأضوائها الجميلة، ولا تنتهي بعمل الخبز بعد أن نشتري العجين من الفرن القريب، وبين وقت وآخر كنا نقوم بالشواء للطيور والعصافير التي يصطادها بعض الأصدقاء بمهارة فائقة، فيتحول المكان إلى حفلة مبهجة تفوق حفلات الباربكيو التي تقيمها مطاعم فنادق الخمسة نجوم على ضفاف برك السباحة. ولا أدري إن كان الزمن قد تغير أم الناس، فلا أرى الآن من أطفالنا هذه العلاقات المفعمة بالألفة والمحبة، وأصبح تعاملهم لا يتعدى مقاعد الدراسة أو الزيارات المحدودة الجامدة، التي لا ينطلقون فيها إلى مساحات أرحب في الاعتماد على النفس ومواجهة الحياة بكل ثقة واقتدار. وفي الشتاء يفضل الكثيرون التوجه إلى البر، على أن بعضهم يذهب دون أن تكون له خبرة في الطرق البرية ودون استخدام الأجهزة الملاحية، وعدد منهم لا يكون مستعداً بشكل كامل للرحلة، فيفاجأ حين وصوله في مكان بعيد بنقص أشياء وأغراض أساسية، وقد لفت نظري رسم كاريكاتيري لبقعة مياه صغيرة وقد قدم حولها وإليها عشرات السيارات، وهذا ما يحدث فعلياً، إذ أن كثيرا ممن يذهب إلى المواقع الربيعية يصاب بالدهشة من تكدس الناس في مواقع معينة، ليفتقد هؤلاء أجمل ما في البر وفي الربيع إذ أنهم ينتقلون من قيود منازلهم ليحبسوا أنفسهم في خيامهم، في الوقت الذي خرجوا فيه ليغيروا من طبيعة حياتهم المعتادة والمملة. وفي ظل هذه الأجواء الباردة، يستطيع غالبنا مقاومة البرد والأمطار في منازل مهيأة بأجهزة التدفئة والملابس الشتوية والبطانيات والأغطية السميكة وغيرها، فما أجمل أن نشعر بالفقراء في مجتمعنا، الذين يصابون حين يحل الشتاء بمصيبتين: ألم زمهرير الشتاء القارس، وألم الحاجة وشدة الفاقة التي تقتلهم في كل لحظة وهم أحياء. تويتر @waleed968