منذ أن تولت الحكم في الأشهر الأولى من عام 2001، دأبت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش على طرح تغييرات جذرية بشأن الاستراتيجيات الدفاعية كان من أبرز ملامحها التهديدات غير النظامية في إطار استراتيجية الأمن القومي الأكثر عمومية والتي تتصل بكيفية التعامل مع تهديد الإرهاب. ومع وقوع أحداث 11 سبتمبر، وجد واضعو هذه الاستراتيجيات في البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأمريكية فرصتهم الذهبية لتطبيقها في أكثر من منطقة في العالم، وكان من المناسب أن تكون البداية في أفغانستان حيث نظام طالبان المعزول دولياً بعد اتخاذه سلسلة من القرارات والإجراءات التي جوبهت باستنكار عالمي كان آخره تحطيم التماثيل البوذية وحيث مركز تواجد تنظيم القاعدة الذي يقوده أسامة بن لادن الذي أشارت إليه أصابع الاتهام فيما يتعلق بأحداث سبتمبر في نيويوركوواشنطن. لقد بدأت الإدارة الأمريكية حربها على أفغانستان، التي ما زالت مستمرة حتى الآن، بمعالجة ما أسمته الحرب غير المتوازية وهي الحرب التي يعرفها رئيس الأركان الأمريكي السابق الجنرال هنري شيلتون بأنها (محاولة طرف يعادي الولاياتالمتحدة بالالتفاف من حول قوتها واستغلال نقاط ضعفها معتمداً وسائل مختلفة عن نوع العمليات الممكن توقعها وهو يوظف شحنات الصدمة والعجز لكي ينتزع زمام المبادأة وحرية الحركة والإرادة). وأثناء معالجة الوضع في أفغانستان تطورت استراتيجيات الدفاع القومي الأمريكي للتعامل مع هذا النوع من الحرب، فقد بدأت تستند على مبدأ عام يرتبط بالتفكير المعتمد لدى الجهة الأخرى والذي وصفته فيما مضى بالجنون، أي أن استراتيجيات واشنطن للتعامل مع ما تسميه بمصادر الإرهاب لم تعد تختلف في حقيقتها عن استراتيجيات القاعدة وطالبان. ورغم الخلاف الظاهر بين تنظيم القاعدة، باعتباره شبكة ذات أذرع أخطبوطية والذي لم يكن هدفاً محدداً يمكن رسم ملامحه بوضوح وبين نظام الرئيس صدام حسين الذي وظف تاريخ الدكتاتوريات في تحديد ملامحه وتعامله مع شعب العراق والدول الإقليمية، فإن الإدارة الأمريكية استمرأت لعبتها مع أفغانستان وتنظيم القاعدة وتحاول جاهدة أن تسقطها على مستقبل حربها مع العراق، خاصة بعد أن وضعت حربها التقليدية أوزارها وصمتت نيران مدافعها وصواريخها وقنابلها الذكية، وهو الأمر الذي يستدعي منطقياً، رحيل قواتها عن العراق والمنطقة، باعتبار أن العمليات العسكرية قد نجحت في تحقيق هدفها السياسي المعلن وهو الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، إلا أن أهداف واشنطن البعيدة في العراق والتي لم يُعلن أغلبها حتى الآن، تستدعي وجود هذه القوات، أو النسبة الأغلب منها لمدة تتراوح بين العام والثلاثة أعوام، وهو ما يحتاج غطاءً سياسياً يبرر ذلك التواجد، وليس ثمة ذريعة أفضل من ذريعة (الحرب غير المتوازية) كاستراتيجية تمنح غطاءً سياسياً لاستمرار تواجد قوات أمريكية في العراق خلال الزمن القادم. متى تنتهي الحرب على العراق..؟ قد يستمد هذا السؤال براءته ومشروعيته عند الجانب العراقي لجهة الحرص على استعادة السيادة الوطنية وإقامة نظام ديمقراطي على أنقاض نظام الرئيس صدام حسين، إلا أن ذات السؤال فقد براءته ومشروعيته منذ اللحظات الأولى التي أعقبت سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط العاصمة العراقيةبغداد، على اعتبار أن هذا المشهد يشي بلا شك بانهيار النظام وتحقيق الهدف السياسي للحرب الأمريكية على العراق. وككل الأسئلة المعلقة عن هذه الحرب، بقي هذا السؤال أيضاً معلقاً في فضاء الصراع بين البنتاغون من جانب والخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات من جانب آخر، فإذ أعلن البنتاغون أن إعلان نهاية الحرب منوط بالجنرال تومي فرانكس قائد العمليات الحربية الأمريكية على العراق، على اعتبار أنه الوحيد الذي يستطيع أن يقدر ما إذا كانت العمليات الحربية قد حققت أهدافها، سارعت وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى الإعلان أن نهاية الحرب على العراق مرهونة بمصير الرئيس صدام حسين. ومن هذا المنطلق، تبدأ لعبة الحرب غير المتوازية والنهايات المفتوحة في العراق، كما كانت، وما زالت، في أفغانستان، إذ رغم مرور الأشهر الطويلة على نهاية الحرب في أفغانستان، ما زالت الإدارة الأمريكية تلجأ إلى فزاعة أسامة بن لادن، والملاّ عمر، كلما شعرت بالضغوط الدولية أو الداخلية الأفغانية المطالبة بسحب ما تبقى من قواتها في أفغانستان والكف عن التدخل بشؤونها الداخلية، وكذا الأمر في بغداد إذ عمدت الإدارة الأمريكية إلى تمرير شريط مصور للرئيس صدام حسين في منطقة الأعظمية في بغداد، يوحي بأنه ونجله قصي وعدد من مرافقيه ومعاونيه لا زالوا على قيد الحياة، الأمر الذي سيعكر صفو مباهج الديمقراطية التي بدأ العراقيون يألفونها في حياتهم اليومية، خاصة ما يتعلق منها بالشعائر الدينية التي صادف أن تكون هذه الأيام متعلقة بالشعائر الشيعية لمناسبة أربعينية استشهاد الإمام الحسين بن علي والانتشار الأفقي للفصائل والأحزاب العراقية التي بدأت بالاستيلاء على المباني العامة وتعليق لوحات على واجهاتها تحمل اسم هذا الحزب أو ذلك الفصيل، وهو أمر يستدعي من زاوية أخرى ضرورة تواجد القوات الأمريكية لمعالجة مظاهر الحرب غير المتوازية التي قد تنتج عن بقاء رأس النظام العراقي وبعض معاونيه على قيد الحياة وهو ما لم تتوانَ واشنطن من ترجمته على الفور عبر الزيارة الاستعراضية التي قام بها توم فرانكس لبغداد والذي أقام في أحد قصور صدام حسين واتصل بالرئيس الأمريكي بوش، فيما أظهرته الصور وهو متمدد على إحدى الأرائك الرئاسية في ذلك القصر، وأردفته بدخول الجنرال المتقاعد جاي غارنر المعين على رأس الإدارة الأمريكية في العراق لإدارة شؤونه خلال المرحلة القادمة التي امتنع غارنر عن تحديد مداها. إن لعبة الحرب غير المتوازية ونهاياتها المفتوحة قد تلقى نجاحاً نسبياً لجهة تحقيق أهدافها غير المعلنة في أفغانستان اعتماداً على التركيبة الاجتماعية والتاريخ الطويل من الصراعات الدامية، ولكنها سوف تفشل في العراق، حالما تكتمل الصحوة العراقية من الكابوس، وتبدأ المطالبة الشعبية المنتظمة في بوتقة التنظيمات السياسية المتوفرة على ما يكفي من تراكم الخبرة في مقارعة الاستعمار، باستحقاقات السيادة ورفض الوجود الأجنبي على أرض الرافدين، وحينها ستكون استراتيجيات واشنطن الجديدة القديمة أمام اختبارات جدية وستكون بحاجة إلى إعادة نظر. كاتب وصحفي عراقي