جلس شاب بجانب رجل شيخ عليه علامات الدهر ومرارة مشقة الحياة..فقال الشاب يا عم.. مالي أرى حالتك هكذا تبكي عين من نظر إليها. وجسمك نحيف ونظرك وسمعك ضعيفان وتضم رجليك إلى صدرك وظهرك احدب وتسند بجانبك العصى. هل من الممكن أن تحدثني عن تاريخ أيام زمان لكي أعرف عصر الآباء والأجداد؟. فتنهد الشيبة بحرقة وجر صعيد النفس بحسرة وألم. ثم سكت قليلاً كأنه يتصفح سجلات التاريخ ثم رفع رأسه إلى الشاب وكانت يده اليسرى ترتعش من الكبر واندفع في الحديث بعقل وحكمة: إن الحياة جميلة وغنية ويجب علينا نحن البشر أن نتعاون بضمير حي. ثم أنزل رأسه إلى الأسفل والدموع تسيل من عينيه وقال رحم الله أيام زمان ورجاله مما حققته من عمل شاق كنت أخرج من المنزل بعد صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة ثم أذهب إلى عملي في الفلاحة بكل نشاط وهمة حاملاً معي أدوات العمل لابساً ثوب الشقاء والتعب المرقع من كل صوب وعند خروجي أرى الرجال والصبيان ينتشرون للذهاب إلى أعمالهم وكل واحد يحمل أدواته منهم من يمشي على رجليه ومنهم من تجده راكباً على دابته وأصواتهم تعلو بذكر الله.. كنت في ذلك الزمان لا أملك شيئاً إلا قواي أنام على الحصير وأمشي حافي القدمين وثوبي أكل عليه الدهر وشرب وأربط تحت باطن رجلي ليفا من النخلة كي أتقي به حرارة الشمس ويتم تبريد الماء في المساخن أو الحب. وقليلا منا من يملك مثل هذه الأواني أو يركب أو يشتري دابة ليستعين بها في المسير وحمل الأثقال. ولا نعود من العمل إلا بعد صلاة المغرب على مدى ساعات النهار نكدح ونروي تراب الأرض من عرق الجبين بحثاً عن الرزق وظهري انحنى من حمل الأثقال واعصاب تساعدني على حمل قواي. وقال يا ولدي حتى الشاب آن ذاك لا يعتمد على والديه بل يعمل ويكدح حتى يساعد والده في توفير لقمة العيش وكان في ذلك الزمان الصغير يحترم الكبير ولا يتقدم عليه في المشي ولا في المأكل والمشرب ولا يجلس قبله ولا يرفع صوته.وإذا اجتمعنا في احد المجالس نكون في غاية الأدب والاحترام ولا نغتاب أي شخص غائب ولا نسهر إلى ساعات متأخرة من الليل بل ترى سكان الحي أو القرية كأنهم عائلة واحدة يسكنون في منزل واحد ولا نعرف الظلم والكذب.. يا ولدي أما أنتم في هذا الزمان فتعيشون في رفاهية وراحة نفسية والنعمة موجودة عندكم أدامها الله من كل ما لذ وطاب.وتلبسون أشكالاً وألواناً وتركبون السيارات الحديثة والتعليم والعلاجات الطبية متوافرة, وتسهرون امام شاشة التلفاز تتابعون القنوات الفضائية وتسمعون الأغاني المسلية, وقطعتم صلة الرحم والتعاون والمحبة بينكم حتى الجار لا يعرف جاره وفاكهة مجالسكم الغيبة ولا تساعدون الفقير وصاحب المصيبة. يا ولدي قف على هضبة تاريخ زمان الآباء والأجداد وسر على نهجهم في العادات والتقاليد لكي تتسم بالحكمة وترد حقوق الآخرين في هذه الحياة..