الوطن ذاك البيت الكبير بحضنه، الدافئ بذراعيه، الأب الحريص والأم الحنون قاموس الحياة وأبجدية الطفولة، مناخ الروح وبستان الأمل، قبلة الأحرار ومحرابها الطاهر، الطفل البريء وعنفوان الشباب والرجل الرشيد. الوطن في « لسان العرب» لابن منظور هو «المنزل الذي فيه تقيم وموطن الإنسان ومحله»، فعراقنا منذ توالي العصور والدهور كان ولم يزل للشموخ منزلاً وللكرم مضيفاً. لكن إذا كان الوطن للجميع فهل الجميع للوطن؟ الوطن قدمَ كل شيء وبات كالمصباح يحرق نفسه ليستضيء به الشعب. ماذا يعطينا العراق كي لا ننزع عنه ثوب الصدق؟ بلد الرافدين دجلة والفرات وأرض السواد بنفطه ومعادنه فيه التاريخ يركع بصفحاته له الملاحم والآثار، كلكامش وأور وبابل وأكد وسومر والجنائن وحمورابي بمسلته الحضارية. إذاً أين المشكلة؟ لا يمكن أي شخص أن يختزل العراق ليبدأ وينتهي به، فالعراق كيان هيكلته وهندسته الفيزيولوجية كجسم الإنسان كل عضو محتاج لمساعدة العضو الآخر فهو ممكن الوجود يفتقر لباقي عائلته. هو العربي والكردي والتركماني وهو الشيعي والسني والمسيحي والصابئي والايزيدي، فسيفساء بأطيافه الجميلة ومن يحاول أن يقتطع منه عضو فهو ذاك الطليق الذي لا وطن له سوى العدم لا يعرف للوجود ونعمته لغة ومعنى سوى الاضطهاد وخلط الأوراق، وما فتنة الأقاليم إلا خلط لأوراق النفاق الديموقراطي وتزييف لوجه الحقيقة بأقنعة الحرية، فهؤلاء المزمرون يريدون من العراقي الأصيل أن يكون مشرداً كما قال الجواهري: ذممتُ مقامي في العراق وعلني متى أعتزم مسراي أن أحمد المسرى لعلي أرى شبراً من الغدر خاليا كفاني اضطهاداً أنني طالبٌ شبرا كم يبلغ بنا العمر ومتى ننزل من الجبل لننصر العراق؟ متى نسرع الخطى لنلحق بقطار التطور العلمي والتكنولوجي؟ متى ننتفض لكرامتنا وعزنا وأجيالنا، فقد هرمنا في شبابنا وأحفادنا يطلبون منا حكايات الأمس، فماذا نحكي لهم، هل نقول كان ما كان في زمان الرجال كانت هناك انتفاضات وثورات وربيع عربي لأبطال قدموا دماءهم رخيصة من أجل مصر وتونس واليمن وليبيا، وأنتم يا جدي ماذا قدمتم؟ نحن يا جدي: قدمنا معنى المثل الشعبي «أم قرعه تتباهى بشعر أختها». أنياب ومخالب المحتل لم تترك لنا متنفساً، فهو حتى اليوم لا يزال يقطع بالعراق وأمناء الشعب ومحاميهم منغمسون بالمصالح وغارقون بطوفان الفساد وما البرلمان العراقي سوى اخطبوط بأذرع دولية تتصارع في ما بينها وتريد أن تطبق أجندتها ومصالحها لتمزيق وتقطيع الوطن وبث روح الفتنة والنزاعات الطائفية لتتشظى اللحمة العراقية ومصيرها المشترك ولكن الفساد وكل الفساد وأصل الفساد هو المحتل فهو حتى بانسحابه وانهزامه ترك لنا غدداً سرطانية تنخر بجسد العراق وما شركاته الأمنية ومدربوه إلا وجه من وجوه الشر والإذعان... ولكن في أوقات المحن تكشف معادن الرجال، والأصيل هو الامتداد الطبيعي لتلك النخلة التي ولدت واقفة بشموخها.