«الهدف من التعلم هو النمو، وعقولنا، عكس أجسادنا، يمكنها الاستمرار في النمو ما دمنا على قيد الحياة» مورتيمر ج. أدلر Mortimer J.Adler لا اعرف لماذا يتسلل أبي خفية الى الغرفة السفلية المهجورة كل فجر ويقفل الباب وراءه. أتراه يتعبد؟ لكن العبادة لا تستلزم كل هذا الحذر. أتراه يمارس طقساً سحرياً؟ لكنه بلا أدوات: لا مجمر ولا محبرة ولا اعشاب ولا اثواب ولا اعضاء حيوانية.. هو يقرأ فقط. ومن خلال ثقب المفتاح على باب الغرفة يمكنني ان ارى بجلاء اهتمامه بالنص بين يديه. فحدقتاه متسعتان ورأسه اقرب الى الكتاب المهترئ بين يديه، والصفحات تنقلب بسرعة، وأنفاسه في صمت الفجر تسمع سريعة وغير ايقاعية.. أتراه يتصفح كتابا ايروسيا؟ ظللت ارقبه حتى انتهى من قراءته وطقوسه وأغلق الكتاب ثم وضعه في دولاب في خزانة مغبرة ترتكز على رجلين في الأمام وعلى الحائط في الخلف. اغلق الدولاب بمفتاح فضي ثم وضعه في حقيبة قد ابيض سطحها غبارا. اغلق الحقيبة بمفتاح نحاسي ثم وضعه في علبة خشبية سحيقة القدم ثم اغلق العلبة ووضع مفتاحها الصغير تحت الحصير. فانسحبت الى ظلام «المخزن» لأفسح له المجال للانصراف الآمن.. تابعته من الخلف وهو يصعد السلم درجة درجة ورأيته ينظر للساعة على معصمه: السابعة صباحا. لن يعود ابي من العمل قبل منتصف النهار وهي فرصة كافية لإعادة قراءة كتاب أبي المفضل في المكان المفضل ولكن في غير الفجر.. رفعت الطرف الأيمن من الحصير. تلمست بيدي الأرض تحته بحثا عن المفتاح الأول. وجدته. فتحت العلبة. رائحة الخشب القديم تدفقت الى خياشيمي. انتشلت المفتاح النحاسي وفتحت الحقيبة. الا انني لم اجد في الحقيبة المفتاح الفضي!.. ولكني رأيت أبي بأم عيني وهو يضع مفتاح الدولاب في الحقيبة!.. حركت الحقيبة بقوة، سمعت صليلا معدنيا لعدة قطع في اجزاء خفية داخل الحقيبة. رفعت الحقيبة. نفضتها. تساقطت عدة مفاتيح منها. جربت فتح الدولاب بالمفتاح الأول بالثاني بالخامس.. أخيرا، انفتح الدولاب! أخيرا، ها هو الكتاب اللغز؟ هل هو مصحف؟ لا، الكتاب منسوخ بالخط المغربي ولكنه، قطعا، ليس مصحفا. ربما هو وصية لأن الكتاب يبدأ بشجرة الأنساب تتفرع في اعلى الصفحة وتتجذر في الأسفل. لكن اسمي العائلي يتكرر في كل فرع وفي كل جذر: هؤلاء، اذن، اجدادي وهذه خريطة الوصول اليهم. الصفحات الموالية تحمل اسماء اجدادي كعناوين. اما النص، وهو في الغالب من فقرتين او ثلاث، فيبدو بخط يد الجد المذكور في العنوان اعلى كل صفحة. كل نص مخطوط بيد مختلفة. هذا يعني ان هذا الكتاب عمره قرون لأنه عايش كل اجدادي. وهذا وحده يشفع لحالته المتردية بفعل الزمن ورطوبة المكان وشغب الأيادي الفضولية للأجيال المتعاقبة على قراءته وتدوين ملاحظاتهم.. ماذا كتب الأجداد؟ قرأت الشهادة الأولى. انتفضت. قرأت الشهادة الثانية. تمكنت مني القشعريرة. قرأت الشهادة الثالثة، العاشرة، التسعين.. أنا أرتجف. هل انتمي لسلالة الملاعين؟ هل هي اللعنة؟ هل كل كل اجدادي اشقياء؟ كيف تمكن الشقاء من سلالة بأكملها؟ كل اجدادي يقرون بخط يدهم بشقائهم وبؤسهم لعدم التزامهم بنص وصية الجد الأكبر الذي حدد لهم السعادة في عدم اغفال «الحاءات الثلاث». اين الوصية، اذن؟ قلبت الكتاب صفحة صفحة. من اليمين الى اليسار. من اليسار الى اليمين. أين الوصية، اذن؟! الوصية يجب ان تكون في مقدمة الكتاب مادامت تحيل على الجد الأكبر!.. الوقت لا يرحم والقلق يتمكن مني وأصابعي تفقد صوابها والكتاب المهترئ يفقد خيوطه وأنا افقد اعصابي ولا انتبه الا وأجزاء الكتاب قد انفصلت عن الغلاف وسقطت على الحصير وتناثرت اوراقه وسط زوبعة من الغبار وضجيج من السعال. في العجلة الندامة!.. خرجت من الغرفة لأستطلع رد الفعل في البيت: لا احد يهتم. القيت نظرة على الشمس: لا زال الوقت في صالحي. عدت الى الغرفة ثانية. جلست هذه المرة على الحصير. سحبت انفاسا عميقة لأطرد التوتر داخلي. استنشق هواء جديدا. ازفر التوتر. استنشق هواء جديدا. ازفر التوتر. استنشق. أزفر.. الآن، عاد الي هدوئي وصار بإمكاني اعادة ترتيب الأوراق والأجزاء بين دفتي الغلاف: صفحة بعد صفحة وجزء بعد جزء و.. أوه! ها هي الوصية! ها هو لغز الألغاز! ها هو مفتاح السعادة! ها هي الحاءات! «الحاءات الثلاث»!.. (1) - حاء الحرية: «جميعنا، يا ولدي، يمتلك خيطا رفيعا داخله يصله بالطفل الصغير الذي كانه: ببراءته وسعادته وخفته وشغبه الجميل في تنشيط السؤال وإباحة التجريب. لكن المعركة الوجودية بأسرها، يا ولدي، تتركز حول الإمساك بهذا الخيط. فإذا امسك به غيرك او رهنته اياه، تحركت بإرادة الآخرين ورقصت لرغبتهم وهدأت لسكونهم وبكيت لبكائهم.. آنذاك، اعلم، يا ولدي، انك صرت ارجوزة في يد غيرك او دمية من دمى العرائس. اما ان تمسك بالخيط فهذا ما لا يمكنك تحقيقه الا عبر بوابة الحاء الثانية، بوابة الحلم: مرشدك لعالمك العميق، وصديقك الذي لا يأبه لقلقك فيضعك امام المرآة ويعرض لك وجهك الحقيقي باسمك الحقيقي ومحيطك الحقيقي.. فمرحبا بك، يا ولدي، في عالم الحلم: عالم الحقيقة!» (2) - حاء الحلم: «قد تكون، يا ولدي، عاشقا للموسيقى والنغمة المخلصة من سطوة الصمت والخرس. وقد تكون عاشقا للتشكيلات اللونية المحررة للبصر من نمطية الرؤية. وقد تكون عاشقا للشعر فتتجدد نبضاتك على وقع الصور المبتكرة والوزن الأصيل. وقد تكون ايضا عاشقا للفرجة التي تفتح العوالم الصغيرة على العوالم الكبيرة وتبدأ بالهزل لتنتهي بالجد.. لكن العشق، كل العشق، يا ولدي، هو ان تعيش حلما في غفوتك وتتذكره كاملا في يقظتك. وهذا ما لا يحدث ل «يا أيها الناس»: أن تتخلص من كل قوانين الطبيعة وتطير حرا كاليمام، خفيفا كالغمام، طليقا كالريح. ان تلقي جانبا كل قوانين المجتمع وتتعرى كطفل فرحان بتعلمه المشي، وتجري مبتهجا في الشوارع الرئيسية غير آبه بقوانين السن والنوع والقبيلة والعرق..» العشق يا ولدي هو ان تعيش حاء الحلم». (3) - حاء الحب: «الحرية، يا ولدي، تستلزم تأطيرا وتنظيرا. والحلم يؤدي هذه الخدمة للحرية. لكن الحلم يتوقع فعلا واقعيا يحققه على الأرض. وهذا الفعل الواقعي هو الحب. الحب، يا ولدي، رحلة لا تنتهي. انه مغامرة تكسبك النضج. ومقياس النضج هو العطاء. فالحب عطاء من الوقت والمال والعقل والروح والجسد.. ولذلك، فالحب، يا ولدي، تجل من تجليات النمو النفسي والعقلي والجسدي. ولكنك، يا ولدي، لن تحب ولن تستمتع بالحب ما لم تحب نفسك: احب ذاتك قبل ان تحب الآخرين. عد الى ذاتك. تعرف مزاياك. راقب نقط قوتك. استمتع بجمالك امام المرآة. تذكر لحظات السعادة والذكريات المشعة في حياتك. راجع معجمك الإيجابي وأسلوب خطابك المحبوب عند كل المجالس. افتخر بما تتميز به عن باقي الناس، فالاختلاف وحده مبرر استمرارية الوجود.. يا ولدي، احب نفسك كي تحب الآخرين، انك اذا امتلكت الحب حررت الأشقياء من البشر، وإذا امتلكت السعادة افرجت عن البؤساء من الناس، وإذا امتلكت النور اضأت ما حوليك..» الساعة، الآن، الثانية عشرة زوالاً. طويت الكتاب. وضعت الكتاب في الدولاب وأغلقته بالمفتاح الفضي. وضعت المفتاح في الحقيبة. اغلقت الحقيبة ووضعت مفتاحها النحاسي في العلبة. اغلقت العلبة ووضعت مفتاحها الصغير تحت طرف الحصير. خرجت وأغلقت الباب ورائي ثم صعدت لأنتظر ابي في غرفة الأكل. وفي فجر الغد، كانت عيني على موعد مع ثقب مفتاح باب الغرفة السفلية لأرقب طقوس ابي التي لم تعد ملغزة قط. فمن الآن فصاعدا، عوض ان اركز اهتمامي على الكتاب بين يدي أبي، سوف اركز على تفاعل أبي مع الكتاب بين يديه. لكن طقس أبي، هذه المرة كان مختلفا. فعوض ان يركز اهتمامه على قراءة الكتاب، كان يركز اهتمامه على قراءة بصمات الأصابع الصغيرة على سطحي العلبة والحقيبة المغبرتين ويتمعن في الرجلين الحافيتين المختومتين جيئة وذهابا في اتجاه المفتاح تحت طرف الحصير.. وانتبهت الى عينيه فوجدتهما مركزتين علي، خلف ثقب المفتاح. ربما غفا. لكنه يرمش باهتمام. هل هو يراني؟ التفت حوالي وتأكدت أنني في الظلام. وعدت لأغرس عيني في ثقب المفتاح لكن الباب انفتح في وجهي ووجدت نفسي راكعا امام أبي وهو يقاوم ابتسامة ماكرة: - لقد اقلقتك يا ولدي بكثرة الضجيج! ارتجلت جوابا قبل ان تشل المفاجأة لساني: - نعم، يا أبي. ولذلك نزلت لأتحرى السبب. ربت أبي على قفاي بكفه: - حسنا، يا ولدي. تفضل وقم بتحرياتك على مهل. ثم انصرف صاعدا السلم درجة تلو الأخرى. ٭ قاص من المغرب