يعتقد كثير من الناس في تصرفاتهم وأنماط حياتهم – أحياناً – أنهم ماضون في طريق صحيحٍ متزنٍ لا يشوبه إفراط مستهجن و لا تفريط مستنكر. فنجد بخيلاً أحط ماله بأسورٍ منيعة ضد أي تهديد بالإنفاق، ولو على ضرورات الحياة من لباس و مسكن، لنجده رث الثياب كريه المنظر، ممتنعاً عن البذل ولو في أبواب الخير، شحيحاً على من تجب النفقة عليه من زوجة و أبناء، معتقداً أنه الوحيد الذي يدرك تقلبات الزمان ولياليه الحبلى. ويقابله في ذلك من يدير حياته بقرارات ارتجالية لا تستند لمعطيات الحاضر و لا توقعات المستقبل، و شعاره "أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" و"اضرب على الكايد إذا صرت بحلان"، ليكون من المتكلفين في المأكل والمشرب، والوامقين لمظاهر الحياة و قشورها. وبين هاتين الصورتين أنماط عدة، دائرة بين الفوضى والبساطة والبذخ، وهي أوصاف يطلقها من هم في محيط الشخص أو من خاصته. وفي هذه السطور سأحاول أن أتلمس تلك الخيوط الرقيقة التي تفصل بين هذه الأوصاف، معتمداً على الاستقراء و الملاحظة في تحديد ملامح كل واحد منها. فالفوضى صفة لكل ما ناقض الترتيب و الانسجام لتشمل فوضى الزمان وفوضى المكان والمظهر. وتتجلى فوضى المكان في غياب تناسقه العام في المساحة أو المحتويات، ليكون غير صالحٍ لتحقيق الحد الأدنى من الاحتياج الضروري لمن هم فيه، وقد يوصف المكان بذلك أيضاً، عندما يبعثره إهمالُ صاحبه له مع قدرته على ترتيبه، ليلتحفه الغبار في كل جانب، أو أن تنبعث منه رائحة كريهة تجتويها النفوس وتنفرها. ومن ارتضى الفوضى فقد رضي الشقاء لنفسة وملامة الناس له ولو ادعى البساطة التي هو أبعد ما يكون عنها. فالبساطة أن تكون للسعة أقرب منها للضيق، و للطبيعة أقرب منها للكُلْفَة ، والرضا أقرب منه للضجر. جاء في لسان العرب في كلمة، بسط "يُقال: خرج يتبسط مأخوذ من البساط ، وهي الأرض ذات الرياحين . و يقال: فرش لي فلان فراشاً لا يبسطني، إذا ضاق عنك". و البساطة صفة تحضر في كل مناحي الحياة، لتبدأ من سكُون النفس و رضاها، إلى الصداقات ونمط العيش والأنس والمسكن و المظهر. فبساطة المكان-مثلا- تكمن في ترتيب محتوياته وتناسق ألوانه التي تسر العين، وتبهج النفس بتكلفةٍ قليلة مؤاتية لمعظم الناس، فليست للثري ممكنةٌ دون غيره. وأن تتوافر المحتويات اللازمة و الضرورية في المكان من غير زيادة عن الحاجة و لا نقصٍ عنها، والتي تضمن الراحة في المكان و الاستمتاع فيه. و البساطة تختبىء في التفاصيل البسيطة فلا يدركها إلا حاذق. فهي كسحرِ البيان الذي يلامس شغاف القلوب بألفاظٍ سهلة ممتنعة، أو شعرٍ خرج من قلبِ شاعرٍ و خيالِ فنان. و هؤلاء هم الأكثر أُنساً بالبساطة و إبداعاً فيها ولو قلَّت الإمكانيات. ولطالما كانت لهم وتراً يعزفون عليه ألحانهم ، وشاطئاً يستجمون فيه و يختلون. فهذا جبران خليل جبران يتغنى بالبساطة في إحدى روائعه، فيقول: هل اتخذت الغَابَ مثلي منزلاً دونَ القصورْ فتتبَّعتَ السَّواقي و تسلَّقتَ الصُخورْ هل تحممتَ بعطرٍ و تنشَّفتَ بنورْ و شربت الفجرَ خمراً في كؤوسٍ من أثيرْ هل جلستَ العصرَ مثلي بينَ جفنَّاتِ العِنبْ و العَناقيدُ تدلَّتْ كثُرياتِ الذهبْ هل فرشتَ العشبَ ليلاً و تلحفتَ الفَضاء زاهداً فيما سَيأتي ناسيًا ما قد مَضى ومن ركب أمواج البساطة، كسب السعادةَ والرضا، والرغبة في طول البقاء، و من جانبها لينهج البذخ في تحصيل ما يريد، بتكاليف باهضة و زائدة عن الحاجة فهو للحسرة أقرب منها للسعادة. قال تعالى: "ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا".