غادر قريته قبل خمسين سنة وعمره لم يتجاوز السادسة عشرة، وذلك بعد حصوله على الشهادة الابتدائية في نهاية عام 1959، ولا يتذكر عضو مجلس الشورى سابقاً الدكتور محمد آل زلفة أنه قرأ كتاباً مطبوعاً خارج المقررات الدراسية، التي كان يشترك فيها مع زميل آخر، عدا كتاب رياض الصالحين الموجود منه نسخة في أحد مجالس خاله الشيخ حسين. ويستعيد آل زلفة ذكرياته عن أول مرة رأى فيها مجلة قائلا: تلك المجلة الممزقة من أطرافها رمى بها أحد الأشخاص، رأيت بها صورة لفريد الأطرش وأخته أسمهان وقصة وصولهما إلى مصر من بلاد الشام، أخفيت المجلة لكي لا يطلع عليها أحد فيعتقد أنها نوع من أنواع السحر وأن الصور للشياطين، أما الجريدة فرأيتها لأول مرة في أواخر عام 1959، في مدينة أبها، عجبت من هذه الصفحات الطويلة المتعددة وما تحمله من أخبار وصور للشخصيات الكبيرة. ويتابع آل زلفة: علق في ذاكرتي ما قرأته في صحيفة البلاد حول إعلان عن وظائف شاغرة في مصنع "كندا دراي"، على طريق الجامعة في الرياض ورأيت صورة المشروب الذي لم أتذوقه في حياتي حينها، وبعد ستة أشهر، توقفت عند المبنى ودخلت أسأل عن وظيفة شاغرة، ولكنها تعذرت. وأبان آل زلفة أنه بحث عن عمل في أكثر من مكان فلم يجد نظراً لصغر سنه، فخصص له شقيقه ريالاً واحداً كمصروف يومي وهو ما يعادل ثلث مرتبه الشهري، والريال ينقسم صباحاً إلى ربع للتاكسي، وربع يشتري به كتابا وأحياناً كتابين أو مجلة من الكتب والمجلات القديمة المعروضة للبيع على رصيف الطريق في البطحاء، وربع يشتري به براد شاهي في أحد المقاهي، وكان يكتفي بوجبتين في اليوم (فطور وعشاء). يقول آل زلفة: كانت مصادر تكويني الثقافي إلى جانب الكتاب، مجلة "قافلة الزيت" وتلفزيون أرامكو الذي يعد أول تلفزيون في منطقة الخليج، وسينما أرامكو التي كانت تعرض الأفلام أكثر من مرة في الأسبوع في مساكن عمال الطبقة المتوسطة، بدأت في تكوين مكتبة متواضعة خاصة بي وكنت أذكر أنه في عام 1962 اشتريت رواية إحسان عبدالقدوس "في بيتنا رجل"، قرأتها في أقل من ثلاث ليال وما زالت نسخة تلك الرواية ضمن محتويات مكتبتي. ويشير آل زلفة إلى أن مدينة الرياض كانت المرحلة الثالثة والانتقالية، وهي مرحلة العمل الجاد من أجل تحقيق الطموحات والآمال التي رسم خطوطها منذ المرحلة الأولى المبكرة للشباب، ففي الرياض أنهى دراسته الثانوية واتضحت بجلاء معالم الطريق إلى الجامعة وبالتحديد جامعة الملك سعود، كلية الآداب. ويضيف آل زلفة: تزوجت وأنا على أبواب دخولي الجامعة، الحلم الطويل بدأ يتحقق ويتحول إلى حقيقة، سكنت ورفيقة دربي في أهم مراحل ومحطات حياتي في بيت صغير، وعادت رفيقة دربي إلى القرية لكي تمنحني فرصة تحقيق الحلم من خلال التفرغ للسنة النهائية في الجامعة كي أحصل على المعدل الذي يؤهلني للمعيدية. وبلغها الخبر ليلة ولادتها بابنتنا الأولى فسمتها "نجاح". يتابع آل زلفة حديث الذكريات قائلا: في جامعة كنساس بدأتُ في تكوين الجانب الأجنبي في مكتبتي، وبعدها واجهت مشكلة شحن كتبي وبذلت الكثير في سبيل شحنها، وقمت برحلات علمية إلى كل من بريطانيا وتركيا ومصر. بحثاً عن مصادر إعداد رسالة الماجستير، فكانت حصيلة تلك الرحلات اقتناء الكثير من الكتب والوثائق والمخطوطات. وهذه المصادر أصبحت من أغنى ممتلكاتي، جمعتها حتى وصلت إلى محافظتي أحد رفيدة. وبما أن كامبريدج كانت المحطة الأخيرة من مشوار التحصيل العلمي العالي لآل زلفة وكانت الأطول من حيث الزمن والأغزر عمقاً في البحث العلمي والأهم في الحصيلة المعرفية، حيث نظام التعليم العالي في بريطانيا يختلف عنه في أميركا. يقول آل زلفة "حصيلة الكتب التي اقتنيتها في الولاياتالمتحدة وتلك التي اشتريتها من إسطنبول والقاهرة ومن مكتبات كمبريدج ولندن ومدن بريطانية أخرى، اقتنيت كتبا نادرة وكتب الرحالة ومعارض الصور القديمة وكذلك الخرائط التاريخية عن منطقة الشرق الأوسط وتركيا والجزيرة العربية، والعديد من مجلدات الوثائق الإنجليزية والتركية والفرنسية، وهذا الكم الهائل من الكتب والمخطوطات الأصلية والمصورة من مكتبات عالمية مختلفة وأهمها مكتبات ستانبول ومكتبة جامعة كمبريدج التي وجدت بها مخطوطات نادرة لم تلق عليها الأضواء من قبل الباحثين العرب أو لم يسمعوا بها البتة، وهناك حصلت على درجة الدكتوراه. وتابع آل زلفة "تم شحن الكتب إلى اليونان ومن هناك جواً إلى الرياض، كلفني شحن الكتب وكذلك ما اصطحبته معي من صناديق تضم الكثير من الوثائق المهمة أموالاً كثيرة، وصلت الرياض وبعد حوالي أسبوعين جاءني خبر وصول مكتبتي، ذهبت إلى المطار وقابلت المراقب المسؤول فوجدته هاشاً باشاً متسامحاً مرحباً وكأنه يعرفني من سنين، وأنا منذ أن رأيته توسمت فيه كل خير. وقال "أحضر لك شاحنة وخذ كتبك وبالتوفيق". وقبل تعييني في مجلس الشورى بعدة سنوات وبالتحديد في عام 1990 قررت أن أبني لي بيتاً في قريتي بمحافظة أحد رفيدة بمنطقة عسير وشرعت فعلاً في تحقيق الحلم أن أبني لمكتبتي مقراً في هذه القرية وأن أجعلها مكتبة مفتوحة لكل أبناء المحافظة ولكل باحث ودارس من أبناء وبنات منطقة عسير وغيرهم من أبناء وطني وكل باحث في تاريخ الجزيرة العربية الحديث وأن أجمع شتات مكتبتي الموزعة ما بين الجامعة ومسكني القديم فيها، وأن أجعلها في بيت واحد وتحت سقف واحد لا تغادره أبدا وتحقق الحلم وتم بناء المكتبة وإلى جانبها المسجد وتحيط بالمكتبة حديقة من أطرافها الثلاثة وتم تدشينها في مرحلتها الأولى على يدي أمير منطقة عسير الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز عام 2008.