بداية أنا لم ألحق بزمن الأستاذ محمد أحمد أنور، أحد رواد التعليم في منطقة عسير في منتصف القرن الرابع عشر من الهجرة، ولم أعش تفاصيل ذاك الجيل الذي رباهم ودرّسهم الذي لن يتكرر من مدرّسين وطلاب أصبحوا فيما بعد مدرّسين، لكن ما إن يأتي ذكر مسيرة التعليم في عسير حتى يأتي ذكر الأستاذ أنور على رأس المدرسين المؤثرين في تلاميذهم في ذاك الزمان بالمدرسة الأولى بخميس مشيط التي فتحت أبوابها في عام 1359ه وسُميت "المدرسة السعودية"، والذي كان من أبرز طلابه الأساتذة " محمد بن سعد بحيبحاء، حسين بن أحمد جابر، سعد بن علي، يحيى جابر بن صمان، مريع بن حسن، إبراهيم بن فايع " وغيرهم إلا أن هذه الأسماء كانت القريبة منه، والأكثر تأثرا به، أذكر منهم كذلك، عبدالعزيز أبوملحة، وعبدالوهاب أبو ملحة، محمد سعيد شلغم، مبارك عبدالله بن مشيط، حزام وناصر آل النابت وغيرهم كثير. ومن ذاكرتي اليوم اخترت لكم الحديث عن الأستاذ أنور، وكيف أنه كان يختار لتلاميذه في مادة الإملاء "إملاء عبارات من الحكم والشعر من خارج المنهاج الدراسي، والسبب كان يريد أن يغرس في تلاميذه شيئا من "القيم والمثل"، وهذا الدور التربوي الذي افتقدناه عند بعض معلمي اليوم الذين يقصرون دورهم على الجانب " التدريسي" للمعلومات والمعارف فقط، عموما مما استحضره من ذاكرتي ما سمعته ذات يوم من الفريق مريع بن حسن، والذي شغل مناصب عدة في السلك العسكري كان آخرها "رئيس هيئة المساحة" وهو من رجالات الوطن النابهين، ويُعد رائد لقسم "المساحة" بالمملكة فيقول: أملانا ذات يوم دراسي في حصة الإملاء أستاذنا أنور"أربع أبيات" من الشعر وهي: إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا وصار على الأدنين كلاً وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكرا وماطالب الحاجات من كل وجهة من الناس إلا من أجّد وشّمرا فسر في بلاد الله والتمس الغنى تعش ذايسار أو تموت فتعذرا ولكم أن تتخيلوا أن هذه الأبيات الشعرية، تُملى على طلاب الصف "الثالث أو الرابع" في ذلك الوقت، وفي كل حصة إملاء كان يختار لهم من كتب الشعر أبيات من أمات القصائد، وهذا الكلام في مطلع السبعينيات الهجرية، ولكم أن تتخيلوا مدى ما تحويه هذه الأبيات الشعرية من القيم والفضائل والمثل التي حاور الأستاذ أنور طلابه حولها يومها، من أجل أن يغرسها في نفوسهم الغضة، وكانت تبقي أثرا تلك الأبيات والدروس عند الطلاب، فعلى سبيل المثال البيت الأخير من هذه الأبيات الشعرية " فسر في بلاد الله والتمس الغنى " كان هذا البيت بما فيه من قيمة لاستنهاض الإحساس بالمسؤولية والبحث عن الذات، وعدم الركون إلى الدعة والكسل وهو ما عبرت عنه أبيات " عروة بن الورد " كان كفيلا لئن يدفع الفريق مريع للسفر إلى الطائف بعد أن أنهى الصف الرابع ليلتحق بالمدرسة العسكرية ومن ثم يبدأ من هناك مشوارا طويلا من الحياة والعمل ومثله كثير.