الشعر ديوان العرب ، وفنهم الأول ومُسجِّل تفاصيل حياتهم الاجتماعية والعاطفية ومن كل النواحي ، سواء كان بالفصيح أم الشعبي .. لأن البلاغة صفة كالكرم والشجاعة، والصفات هبة من الله عز وجل، توجد في المتعلم والأمي ، لهذا فإن للشعر الشعبي بلاغة واضحة يدركها من يعرفون لهجة الشاعر ، ويعيشون بيئته، ويتذوقون صوره وخيالاته، ويدركون الدقة في تعابيره ورموزه و تراكيبه .. أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه وإنما يمتاز الشعر الفصيح بأنه أكثر سيرورة لأن لغته يفهمها العرب كافة، ولاشك أن الشعر الفصيح هو المقدم وهو الأصل و الأصيل ، وهو الأستاذ ، وما الشعر الشعبي الا تلميذ صغير عند ذلك الشيخ الكبير يسمع منه ويحاكيه و يلثغ كما يلثغ الطفل في سنوات المدرسة الأولى .. ومع ذلك وجد في الشعر الشعبي -كأستاذه الفصيح - روائع شعرية وسوف نختار من هذا وذاك .. كان لابن زريق البغدادي زوجة جميلة يحبها وتحبه ، فأصابه الفقر وضاق به الحال ، فقرر السفر الى الأندلس طلباً للرزق من أجلها قبله لكنها تمسكت به ورجته. ولّعتني وخليتني أنشد الناس وفضحتني مابين ربعي الادنين - وعيناها تفيض من الدمع- ألّا يسافر لأنها لا تطيق فراقه لكنه أصر على السفر .. وفي غربته لم يجد إلا الحنين لها والعذاب من فراقها فقال قصيدته الشهيرة والتي وجدت في سريره الذي مات فيه وهو غريب في الأندلس لم يرها بعد ذلك السفر المشؤوم (أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ودّعته وبودّي لو يودّعني طيبُ الحياة وأنيّ لاأودعه كم قد تشفّع بي أنْ لا أفارقه وللضرورات حالٌ لا تشفِّعه وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلاتُ وأدمعه لا أكذبُ الله ثوبُ العذر منخرقٌ عنيّ برقته لكنْ أرقّعه إنيّ أوسَّع عذري في جنايته بالبين عنه وقلبي لا يوسّعه أُعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته كذاك من لا يسوس الملك يخلعُهُ ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا شكر عليه فإنّ الله ينزعه اعتضت من وجه خلِّي بعد فرقته كأساً أُجرّع منها ما أُجرّعه لا يطمئن بجنبي مضجعٌ وكذا لا يطمئن له مذْبنتُ مضجعه ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني به ولا أظنُّ بيَ الأيام تفجعه حتى جرى البين فيما بيننا بيدٍ عسراء تمنعني حظّي وتمنعه وكنت من ! ريب دهري جازعاً فرقا فلم أوقّ الذي قد كنت أجزعه بالله يا منزل الأنس الذي درست آثاره وعفت مذ بنت أربُعُه هل الزمان معيدٌ فيك لذّتنا أم الليالي التي أمضته ترجعه في ذمة الله من أصبحت منزله وجاد غيثٌ على مغناك يمرعه من عِنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما عندي له عهدُ ودٍّ لا أضيّعه ومن يصدّع قلبي ذكره وإذا جرى على قلبه ذكري يصدّعه علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاً فأضيق الأمر إن فكّرتُ أوسعه عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا جسمي ستجمعني يوماً ! وتجمعه وللشاعر فهد العسكر: (كفي الملامَ وعلليني فالشك أودى باليقينِ وتناهبت كبدي الشجون فمن مجيري؟ مِن شجوني! وأمضني الداء العياء فمن مغيثيي؟ من معيني؟ أين التي خلقت لتهواني وباتت تجتويني الله يا أماه فيَّ ترفقي لا تعذليني أرهقتِ روحي بالعتاب فأمسكيهِ أو ذريني أنا شاعرٌ أنا بائسٌ أنا مستهامٌ فاعذريني أنا من حنيني في جحيمٍ آه من حر الحنين ضاقت ! بي الدنيا دعيني أندب الماضي دعيني وأنا السجين بعقر داري فاسمعي شكوى السجين بهزال جسمي باصفراري بالتجعد بالغضون وللأمير خالد الفيصل (وشدا بها محمد عبده) : ولّعتني وخليتني أنشد الناس وفضحتني مابين ربعي الادنين ياصاحبي من عقبك البال منحاس أصفق بكف كف وأشكي من البين لاتحسب ان الصد والهجر نوماس ترى الخطا مدموح بين المحبين اسقيتني مُر العذابين بالكاس وحرمت عيني لذة النوم يازين حبك لجا بالروح من غير مقياس ماقلتلي ايش غيرك ياريش العين لاباس ياسيد الغنادير لاباس مقبول ماجا منك ياكامل الزين * ومن الشعر الغزلي المتحرك الممراح قول الأمير بدر بن عبدالمحسن ... (وشدا بها طلال مداح رحمه الله) : (ياطفلة تحت المطر ... تركض واتبعها بنظر .. تركض تبي الباب البعيد .. تضحك على الثوب الجديد ابتل وابتل الشعر ... *** لو رميتي شالك الدافي على متن السما .. دفيت الشمس في فصل الجليد .. لو نثرتي صوتك الحاني .. على صدر الضما أنبت العشب وأخضرالجريد .. بدر بن عبدالمحسن فهد العسكر