ما يشغل بال الإنسان في هذا الزمن الذي تراكمت فيه النزاعات حتى أصبحت هاجسا ينال حيزا من تفكيره ويقتل أحلامه وطموحاته التي خطط لها منذ فترة، هو بحثه عن ذاته، ولطالما كانت تلك النزاعات تعيق مثل هذا البحث الذي يكوّن شخصية الإنسان الثقافية والإنسانية والسياسية والاجتماعية. وإن طمس عوالم الذات تعتبر حذفا لمفاهيم شخصيته إذا ما علمنا أن الإنسان -أي إنسان في الكون- يسعى دائما إلى تجديد ذاته وبناء شخصية متوازنة يراهن عليها حتى تستطيع أن تؤدي دورها في المجتمع تؤثر فيه وتتأثر به إدراكا ووعيا. الكتابة قد تكون مخرجا للذات الإنسانية، ذلك أنها فعل ذاتي ينتمي للقيمة المدركة التي تمثل مفهوم المعرفة والعقل وتحقيق أعلى درجات الحلم حسب قول الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: "الكتابة ليست إلا حلما موجها". أضف إلى ذلك أنها تنوير لتداعيات الذات الوهمية والتي من شأنها -أي هذه الذات الوهمية- الإخلال بالذهنية وخلق حالة من التأزم والصراع مع الذات أو مع الذوات الأخرى. قد تمثل الكتابة الواعية سلطة على الذات قادرة على تفكيك حالات كثيرة من حالات الصراع الذاتي والقلق واليأس والحيرة التي تعتري الإنسان بين الحين والآخر لأنها – أي الكتابة – وسيلة تعبير عما يجول في خاطر الشخصية وإخضاعها لبند الوجود الذاتي الذي يمكّن هذه الشخصية من استيعاب الرأي المقترح على اعتبار أنها تستطيع أن تبني لها صرحا لائقا من المفاهيم والمرتكزات التي تحدد نمطها في الحياة. قد يميل الشاعر مثلا لأن يبحث عن ذاته المفقودة عن طريق مشاعره التي يخلدها في قصيدته أو عن طريق المتخيل الذي تتبناه المفردات الشعرية والبلاغية، بالمقابل قد يخلق الروائي شخوص روايته لتحقيق ذواتهم في الحياة وهذا ما فعله المصري محمد سلماوي في روايته "أجنحة الفراشة"، حينما بادر لخلق شخصيات تبحث عن ذاتهم في فترة عصيبة وتاريخية تشهد كثيرا من الانفلاتات السياسية والصراعات المأساوية. إن فكر الإنسان يتولد عن طريق تأملاته التي يرصدها عبر الذاكرة الواقعية ومن هنا يستطيع أن يكوّن له خلفية معرفية قادرة على محاكاة ذوات الآخرين، وبما أن الكتابة هي انفتاح جرح ما حسب رأي كافكا فإن هذا الفعل المقصود بالكتابة قادر على سلك حالة تعبيرية، وبالتالي يساعد الشخصية على البحث عن ذاتها تماما كما يبدع الموسيقار في مقطوعته الموسيقية أو الفنان في لوحته التشكيلية وكل ذلك إنما هو بمثابة شحنات عالية الدقة للبحث عن الذات التي قد تكون مفقودة ومحاولة تذويب كل التحديات التي تعتريها. فالكتابة لا بد أن تكون حاضرة في ذهنية الباحث عن حقيقة ذاته لأنها تعد مخرجا سلوكيا يرفع من منسوب الأمل لحياة جديدة.