بلا شك أن المملكة بعد حملة الريتز الشهيرة ضد الفساد لم تعد كما كانت.. هذه الحملة غيرت وجه البلد، كان الفساد منتشرا وعلى مستويات عليا، وكان كثيرون يعلمون ويسكتون إلى أن وصل الأمر مرحلة أصبح الفساد شبه مألوف، وكان كالغول ينهش مقدرات وتقدُّم الوطن. كنا نكتب عن الفساد لسنوات ما يمكن كتابته، إلى أن أتت حملة الريتز بقيادة ولي العهد (أبي سلمان)، فأطاحت برؤوس الفساد في حملة لم يتوقع أكثر المتفائلين مداها وحجمها، وأطاحت برؤوس لم يخطر على بال الغالبية أن تقع، ووعد أبو سلمان وصدق أن الحملة لن تستثني أحدا. تغيرت المملكة، وقلّ الفساد المالي بشكل كبير، ولم يعد هناك من يدعي أنه مستثنى من النظام، وبت تلاحظ الفرق عندما تزور المملكة، فلم تعد تسمع أن لفلان أو علان نصيبا من المشروع الحكومي سين أو صاد.. سابقا كان يدعي البعض أنه (قالط) بلهجتنا أهل الرياض أي (مقرب)، لكن أثبت عهد أبي فهد أن المقرب مقرب بقدر خدمته للبلد والوطن، ولا استثناء لأحد، الجميع سواسية (قالط أو غير قالط)، لكن بدأنا نلاحظ بما أن حنفية الفساد المالي أغلقت، فإن حنفية فساد آخر بدأ يُسمع صداها ألا وهو الفساد الإداري، وهو لا يقل بأي شكل من الأشكال خطورة عن الفساد المالي، وكما قال أولوسيجون أوباسانجو «الفساد هو أعظم هلاك في مجتمعنا اليوم». ومما يدعوني لكتابة مقال اليوم أنه ربما حان الأوان لحملة ريتز جديدة للتركيز على الفساد الإداري ولتذكير من نسي! فهناك 3 أسباب رئيسية: أولا: نحن في طور رؤية تنموية جبارة، ولكي نصل للأهداف المرسومة نحتاج وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، للأسف بدأنا نسمع أن بعض الأماكن والمناصب أصبحت لأناس معينين ومعارفهم ومن يعز عليهم، بغض النظر عن الكفاءة والتنافس، وأعتبر أن الفساد الإداري أخطر من الفساد المالي في كثير من الحالات، لأنه يخرب البلد والتنمية، وكمثال يقال إن الاتحاد السوفيتي سقط وتفكك من خلال عدم تعيين الرجل المناسب في المكان المناسب.. صحيح أنه سقط بسبب مشاكل اقتصادية، لكن الاقتصاد كان الأعراض وليس الأسباب، فكبر أعمار أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم، وعدم إيجاد مساعدين أكفاء بجانبهم دمر الاقتصاد السوفيتي، ويقال إن أميركا والغرب زرعوا جواسيس كانت مهمتهم الرئيسية وضع الرجل الأقل كفاءة في المناصب العليا، مما دمر آلية صنع القرار وتنفيذها. وبغض النظر عن صحة هذه النظرية لأن المنتصر هو من يكتب التاريخ، يتبين لنا من هذه النظرية خطورة وضع عدم الكفاءات في المناصب المهمة لأنها تدمر تنمية الأمم، وليس هناك جريمة في الاقتصاد أكبر من قتل الكفاءات، وأي بلد لكي يسود ويتطور تاريخيا فإن السبب المشترك هو وجود كفاءات وإبداع بين مسؤوليه وقادته. ثانيا: بدأنا نسمع عن عملية الجسر، وما أدراك ما عملية الجسر؟ وهي تنقسم إلى نوعين، جسر محلي وجسر دولي، أما الجسر المحلي فهو موظف حكومي معروف ومعروفة مهاراته ومؤهلاته، يقدم استقالته من عمله الحكومي ويتم التعاقد معه كخبير متميز براتب عدة أضعاف راتبه السابق، (طيب خوينا هو خوينا) ما هو الذي سيأتي به، وما الأفكار الجديدة التي حصل عليها خلال هذين الأسبوعين ليستقيل ويعود ليضاعف راتبه إلى مبلغ غير معقول؟!. أما الجسر الآخر فهو الجسر الدولي، موظف شاب خبرته بسيطة، لكن له قريب بمنصب حكومي ويتعامل مع الشركات الاستشارية، فيقومون بتوظيف الشاب في إحدى الشركات الاستشارية الكبرى، وبعد مدة من الزمن يتم التعاقد معه حكوميا بمنصب كبير وراتب مضاعف لا يقارن بمهارته ومؤهلاته.. (طيب ولدنا هو ولدنا ما تغير خلال فترة قصيرة.. هذا حسينوه وهذه خلاقينه)، لماذا يقدم على أقرانه ويعطى ميزات ومنصبا وهناك كفاءات قد تكون أفضل منه، والموضوع أصبح علنيا وكتبت عنه الصحافة العالمية. ومن واقع تعامل مع الشركات الاستشارية الكبرى داخل وخارج البلد في عدة موضوعات ومشاريع، هناك شبه إجماع أن الشركات الاستشارية لا تقدم شيئا خارج المألوف أو إبداعيا أو استثنائيا، وكثيرون يستخدمونها ك«درع» للموظف أمام رؤسائه إذا ما أراد أن يقنعهم بخططه، أو يلقي بالمسؤولية على خطط الشركات الاستشارية إذا (صار شيء غير مرغوب فيه، فيقول هذه أفكار الشركات الاستشارية ويطلع منها). الشركات الاستشارية مبدعة في شيئين: (البرزنتيشن) أو العرض بالبور بوينت، «يطلع متوهج ورسومات وأرقام... إلخ». والشيء الثاني أنهم يستخدمون مصطلحات ومفردات جديدة ومعقدة، ويبدو أنهم يبذلون مجهودا في القاموس للبحث عن مفردات جديدة أو اختراع مصطلحات جديدة حتى يقنعوا المستمع.. لا أذكر أنني قابلت أو سمعت رجل أعمال أو مسؤولا، سواء داخل البلد أو خارجها، قال لي إنه استفاد بشيء كبير من الشركات الاستشارية، لكن الجميع يحتاجها كدرع ووسيلة إقناع. ثالثا: وهو نوع خطير وجديد، هناك مسؤولون -عن جهل أو عن قصد؟- يحاولون تعطيل التنمية والرؤية الفذة التي تسير عليها المملكة، سابقا كنت أظن وكتبت أن بعض المسؤولين بسبب ضعف إمكاناته وقدراته لأنه بيروقراطي وتعود على التكرار لا يفهم حيوية ومرونة وإبداع الرؤية، وهناك بعض آخر بسبب تأثير الصحوة عليه حتى لو أنكر الصحوة، فإن عقله الباطن يرفض التجديد والجديد، لكن الأخطر هم فئة جديدة من المسؤولين الذين يدعون التبلد وعدم الفهم ويؤخرون تطبيق وتقدم الرؤية، ولهم أجندتهم الخاصة.. تستغرب أن تجد أحدهم يدعي عدم الفهم ويحاول أن يقنعك أنه بيروقراطي صرف، لكن عندما تغير الموضوع تجده لماحا وفاهما، وعندما تستخدم مهارات لغة الجسد فإن ذلك يفضحه، وكما يقول الأب الروحي للتحليل النفسي سيجمويد فرويد «الحقيقة تظهر مع زلات اللسان».. لا أحب أن أكون مكارثيا، لكن الفئة الأخيرة فاجأتني بوجودها، ربما المسؤول أو الوزير يكون صالحا لكن من تحته هم من يديرون العمل ويطبقونه، وهم كالتروس إذا تعطل أي ترس تعطل كل العمل. حملات مكافحة الفساد من وقت لآخر تكون لها آثار إيجابية لتصويب الطريق، ولإعطاء الكفاءات مكانها المناسب والدفع قدما في تحقيق الرؤية.. لست أطالب بوضعهم في الريتز لكن من باب الاستعارة، ولا شك عندي أن الحكومة تعي الموضوع وهي التي فاجأتنا بعلمها ومعلوماتها في حملة الريتز الأولى، وهي تعرف بما لديها من إمكانات وخبرات حيثيات الموضوع الحالي، لكنها بما أن مصادرها ومهاراتها أكبر من أي كاتب فإنها تختار الوقت الأنسب. إن مكافحة الفساد ليست عملا مثاليا، بل هي وطنية، وكما في مقولة بايدن «مكافحة الفساد ليست فقط حكما صالحا، بل هي دفاع عن النفس، بل هي وطنية». حنفية الفساد المالي أغلقت، لكن حنفية فساد آخر بدأ يُسمع صداها، ألا وهو الفساد الإداري، وهو لا يقل بأي شكل من الأشكال خطورة عن الفساد المالي